(1)
مستقبل القوة الأمريكية
عقب انسحاب الجيش الأمريكى من أفغانستان منذ أسبوعين، خصص الموقع الإلكترونى بدورية «الإيكونوميست»، الأسبوعية الشهيرة، المساحة الرقمية المعتادة لدعوة الخبراء والمعلقين السياسيين للتعليق حول قضية أو حدث ما لتحليل تداعيات هذا الانسحاب. وعليه قبل العديد من الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين المعتبرين دعوة «الإيكونوميست» ليدلوا بدلوهم، حول تداعيات قرار الإدارة الأمريكية بالانسحاب العسكرى من أفغانستان، تحت عنوان: مستقبل القوة الأمريكية؟.
من ضمن الذين شاركوا بإبداء الرأى نذكر: «هنرى كيسنجر»، و«نيال فرجسون»، و«فرانسيس فوكوياما».. وبينما تناول كيسنجر ــ بصورة مباشرة ــ الفشل الأمريكى فى أفغانستان، توسع «فرجسون» فى ملامسة أسباب الإخفاق المدوى للمشروع الإمبراطورى الأمريكى، الذى تم الإعلان عنه فى ظل حكم «بوش الابن» ومساندة المحافظين الجدد، فإن «فوكوياما» اعتبر ما جرى فى أفغانستان بمثابة: «نهاية ــ إقصائية ومبكرة ــ للهيمنة الأمريكية على العالم» «end of American hegemony»؛ ما يعتبره «فوكوياما» تحولا جسيما فى تاريخ العالم. نعم ستظل الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى لسنوات عديدة ــ بحسب «فوكوياما» ــ ولكن السؤال الذى يجب الإجابة عنه الآن وفورا هو: «إلى أى مدى ستكون قوتها ذات تأثير له شأن مستقبلا؟!».
(2)
أمريكا لم تعد قوة عظمى وحيدة ولا إمبراطورية
يحيل «فوكوياما» أسباب ما جرى إلى الانهيارات والهنات البنيوية التى تراكمت فى الداخل الأمريكى عبر زمن طويل، أكثر من التحديات الخارجية التى تواجهها وخاصة الصعود الصينى. وإن كان ــ فى الوقت نفسه ــ لا يقلل منها.. ويرى «فوكوياما» أنه لا مناص من البدء فورا فى علاج الإشكاليات الداخلية المحتدمة، والتى سينعكس إصلاحها على السياسة الخارجية الأمريكية من خلال رؤية جديدة للعالم وإشكالياته أكثر تفاعلية وواقعية وتعاونية مع باقى دول المنظومة الدولية.. خاصة وقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة فى أفغانستان لصالح كل من: الصين، وروسيا، وإيران، وتركيا، وباكستان، وغيرها من الدول، وإن بدرجات متفاوتة (وهناك تفاصيل كثيرة يرصدها المراقبون فى هذا المقام وخاصة من قبل الصين التى تعد ــ ربما ــ الأكثر استعدادا لاحتواء طالبان). ويرى البعض النظر إلى أن التنازل الأمريكى ــ وما جرى على الأرض فعليا فى أفغانستان ــ يمكن اعتباره: مخططا أوليا ــ بروفة ــ لما سيؤول إليه النظام الدولى العالمى مستقبلا.. ويلفت البعض النظر إلى أن هذا التنازل لم يكن الأول الذى مارسته الولايات المتحدة الأمريكية فلقد جرى فى أكثر من مكان.. وهناك من يخشى تكرار سيناريو أفغانستان عند الانسحاب الأمريكى المبرمج من العراق فى نهاية 2021. ويؤكد كل ما سبق أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد: «قوة عظمى وحيدة» «Lonely super Power»؛ بحسب ما روج «هنتنجتون» فى وقت من الأوقات. ولا «إمبراطورية» كما خطط ونفذ ــ لوقت ــ اليمين المحافظ: السياسى والدينى.
(3)
فوكوياما: كاتب النهايات
دائما ما يثير الأكاديمى الأمريكى «فوكوياما» الجدل بأحكامه الحاسمة والقاطعة. وتعد كلمة «نهاية» هى الكلمة المفتاحية للكثير من كتاباته ما دفعنى أن أصفه مرة: بمؤلف/ كاتب النهايات.. ففى سنة 1989 طالعنا «فوكوياما» بكتابه: «نهاية التاريخ»؛ بشر فيه بانتصار الديمقراطية الليبرالية انتصارا نهائيا عقب تفكيك الاتحاد السوفيتى. وبعد عشرين سنة، وفى 2009، كتب دراسة شهيرة عنوانها: «نهاية الريجانية» (الليبرالية الجديدة)؛ منتقدا بشدة سياسات الليبرالية الجديدة داعيا إلى إقامة نظام اجتماعى أكثر عدلا. وأخيرا وفى مطلع العقد الثانى من الألفية الجديدة أصدر مرجعا معتبرا عنوانه: «النظام السياسى والتحلل السياسى» حيث يستعرض جذور النظام السياسى من قبل الإنسانية، مرورا بالثورة الصناعية والفرنسية، إلى ما أطلق عليه عولمة الديمقراطية «(1400 صفحة). وعبر صفحات هذا المرجع نجده يعيد النظر فى الكثير من المسلمات السياسية. لقد فتح الحديث المقتضب عن «النهاية الجديدة» التى يشير إليها فوكوياما، حول مستقبل القوة الأمريكية، فى الإيكونوميست، الباب لكثير من التعليقات الكثيرة الجادة والهامة، والتى وصف بعضها الانسحاب الأمريكى بأنه صورة مكررة للأفول التاريخى لبريطانيا العظمى: مملكة الشمس