مايو 1968: وهل مازال "كل شئ مباحا"؟!

فى مثل هذه الأيام منذ 40 عام, انطلقت فى فرنسا ما يعرف تاريخيا باسم “حركة الشباب”.. الحرة التى لاتزال أفكارها وممارساتها “مثار نقاش” حتى الآن بسبب قدرتها على تغيير الكثير مما كان سائدا آنذاك والتأثير على مسار التاريخ الإنسانى بعد ذلك, ولأن رموزها تولوا قيادة أوروبا بعد ذلك (يوركا فيشر وكوشنير..), فلقد كان هذا التحرك الشبابى ثورة على جيل الكبار فى كل المؤسسات (الأسرة والجامعة والكيانات المدنية والثقافية والسياسية) بما يحمله من قيم وأفكار.


لم يكن الجديد هو التمرد الشبابى – فالتمرد سمة الشباب – وإنما الجديد هو الإصرار على التعبير عن هذا التمردبشكل علنى ومنظم والضغط على المجتمع بأنه لن يفيد الردع فى هذه المرة, كذلك على المجتمع من النوع الشبابى, وأن الأسرار التى يحملها جيل الكبار ولا يقوم بنقلها إلى جيل الشباب إلا بقدر ما يظهرون من ولاء لهم أصبحت متاحة لهم – كشباب – بحكم التقدم العلمى والتكنولوجى, وعليه لم يعد سراالاختراع ملكا لأحد, ولم يقف الاحتجاج عند هذا الحد بل امتد ليشمل الاعتراض على مواقف السياسيين الذين يبررون سياسات غير عادلة وغير إنسانية, وعلى النظام التعليمى, وعلى رموز ومضمون كل من الإعلام والثقافة, حتى الحركات ذات الطابع الراديكالى لم تنج من احتجاج الشباب.. إلخ.


وبدأ هذا التحرك الشبابى يخرج من باريس إلى سائر العواصم الأوروبية وإلى باقى القارات. حتى أمريكا وجدت فيها حركات تبلورت بسبب عدم اقتناع الأجيال الجديدة بالحرب الفيتنامية وجدوى إبادة شعب مسالم. وكان السؤال: ما قيمة التقدم العلمى والتكنولوجى إن لم يستخدم من أجل خير الإنسان. لعل كتابات هربرت ماركيوز ومدرسة فرانكفورت وفيلم نقطة زابريسكى لأنطونيونى و The Wall للفريق الغنائى البينك فلويد بالنسبة لأوروبا من جهة, وكتاب هورد زين تاريخ شعب الولايات المتحدة وفيلم The Sixties من جهة أخرى, تعبر عن التحولات التى حدثت فى حقبة الستينيات بتفاصيلها المثيرة والمهمة وكانت دافعا لتمرد شباب هذه المرحلة التى أتصور أن “فهما دقيقا لها ربما يفسر لنا الكثير مما يجرى الآن فى العالم”.


لقد تبنت حركة الشباب فى العام 1968, الدعوة إلى ضرورة إنهاء أى شكل من أشكال تبعية الشباب, وتأكيد فكرة الحرية فى شتى المجالات لأن هذا هو المدخل لتجديد المجتمع ومن ثم تأكيد وجودهم وحق تعبيرهم عن أنفسهم. إنه الحلم بعالم مختلف – كما يقول أحد الباحثين – لذا كان من ضمن الشعارات التى كان يكتبها الطلبة على الجدران “المنع ممنوع”, و “وكل شئ مباح”. لقد أدى ترهل المؤسسات القائمة وعدم قدرتها على مواكبة تطلعات الأجيال الشابة الصاعدة التى ولدت مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى هذا التمرد العارم على كل ما هو قائم. لقد أثارت حركة مايو 1968 تساؤلات كبرى حول المجتمع بما يحمل من قيم وتوجهات ومؤسسات. صحيح أنها لم تقدم إجابات على هذه التساؤلات – بحسب ميشيل روكار- ولكنها أضفت مشروعية على حق إثارة التساؤلات وربما يكون هذا الأمر أحد أهم دروس حركة 1968والتى باتت حقا مشروعا إلى يومنا هذا. بيد أن عدم اهتمام الحركة بتقديم الإجابات أى فى تقديم تصور بديل لما هو قائم يعد أحد أهم أسباب نقاط ضعفها. صحيح أنها حلمت بعالم جديد وتمردت على كل البنى والمؤسسات والهياكل لكنها لم تطرح البديل. وهنا يقول أحد رموز هذه الحركة وهو يدلى بشهادة ذاتية حول الأحداث بعد عقود من وقوعها (يعمل أستاذا لعلم الاجتماع فى جامعة باريس السابعة) أن إشكالية ما حلمنا به هو أنه يظل حلما ما لم يترجم إلى رؤية واضحة لما نريد واقتراحات محددة وبرنامج واقعى حيث لابد من تحويل اليوتوبيا إلى واقع, وفكرة التغيير إلى برنامج. وهنا كان الفخ حيث اصطدمت عناصر الحركة بالواقع الذى يرفضونه, فاكتشفوا أن ما لديهم لا يستطيع أن يبلور ملامح ومضمون حلم التغيير.


الواقع أن فرنسا الستينيات كانت تعانى من الكثير من المشكلات. وكان وحده ديجول – بحسب بعض المعلقين – على عكس بومبيدووالقيادات اليمينية التى لم تختلف فى رؤيتها عن قيادات الأحزاب اليسارية, كان يدرك أن الأحداث لم تكن بفعل المسيسين من الشباب بل هى تعبير عن يأس الشباب وترهل المؤسسات وتدهور التعليم وإنسداد الفرص أمامهم وظهور شريحة إجتماعية ذات مصالح احتكارية. النتيجة أن قدراً من الفوضى قد طال ردود فعل هؤلاء الشباب. وسرعان ما رجع كل عنصر إلى مرجعية ما وبلورة رؤية للتغيير ربما تتناقض مع ما تمردوا عليه تراوحت هذه الرؤى فى تبنى مواقفتجاه الأيدولوجية والسلطة وأصحاب المكانة/الثروة والعنف, فكانت المفارقة أن تبنى البعض أيدولوجيات أكثر تشدداً بعضها احتمى بالدين, والبعض وقع فى تناقض بين الدعوة لمواجهة المجتمع الاستهلاكى والوقوع فى أسر أحد أهم مقومات هذا المجتمع الاستهلاكى بتبنيهم مقولة استهلاكية – بامتياز- هى “نريد كل شئ”. والبعض لجأ إلى العنف اللامؤسسى وهم الرافضون للعنف المؤسسى. والبعض وجد السير فى طريق السلطة الوسيلة القادرة على تحقيق الحلم. وأخيرا هناك من ظل أمينا على حلم التغيير نحو مجتمع أكثر عدالة يفسح المجال للشباب دون قيد أو شرط حتى الكهولة. وهنا بالتحديد من يدلل على مدى ما سببته الحركة من آثار سلبية على المسيرة الإنسانية بسبب هذه التناقضت.. يد أن من إيجايات حركة 1968:
• أن السلطة السياسية والأحزاب قد عملا على إجراء الكثير من الاصلاحات فى كثير من المجالات.
• تأسيسها لأهمية قبول التنوع والحرية والنقد الذاتى.


• والأهم بحسب أحد مؤرخى هذه الحركة هو كيف تنبه المجتمع لأن يواجه التناقض بين “وجود أفراد مضطرين بفعل قوانين السوق وخاضعين للمتطلبات الاقتصادية وبين مواطنين مستقلين ومشاركين – بغض النظر عن المكانة والثروة واللون والجنس والعقيدة والإنتماء الجيلى – وقادرين على الإمساك بمصيرهم غير استبعاد “بسبب اتاحة الفرص المتساوية بين الجميع”.
هذه هى القواعد التى نتجت عن هذه التجربة.. نعم كانت البداية حادة تبغى استباحة كل شئ ولكن المجتمع استطاع من خلال آليات توافقية وحوارية أن يحقق هذه القواعد. من هنا تكمن أهمية دراسة هذه التجارب والتعلم منها, خاصة إذا ما كانت هناك ظواهر معاصرة تتماثل مع تجربة 68 إحدى تجلياتها المدونات الفضائية التى تقال جداريات شبا باريس بالرغم من مضمون السياق المنتج للظواهر, إلا أن الأمر يستحق التفكير.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern