أغنية للنرويج..

(1)
الترجمة اختيارات صائبة ومتنوعة

الترجمة فعل إبداعى متعدد المستويات يسهم فى بلورة العملية الذاتية للتقدم، من خلال التواصل الفكرى والثقافى مع حصاد تجارب الآخرين فى جميع الفروع. ومن ثم هناك ضرورة لتنظيم عملية الترجمة لضمان الاختيار الصائب للمواد المترجمة، كذلك تنوعها. فى هذا السياق، يأتى الجهد الذى يبذله الأديب البارز والمترجم الدؤوب الأستاذ «ياسر شعبان» فى مجال ترجمة الأدب النرويجى.

فلقد اقتصرت معرفتنا لهذا الأدب- ولوقت طويل- على «هنريك إبسن»، وتمحورت غالبية- إن لم يكن كل- جهود ترجمة الأدب النرويجى على ترجمة أعمال «إبسن» دون سواه للحد الذى «كلما ذُكر الأدب النرويجى، يظهر اسم هنريك إبسن بوضوح حتى ليبدو أنه كاتب النرويج الأوحد الجدير بالاهتمام فى عصره وفيما تلاه من عصور»؛ بحسب ياسر شعبان فى مقدمة كتابه الصادر مؤخرا المعنون «أغنية للنرويج» (هيئة الكتاب ــ 2020).

والذى يلقى فيه الضوء على الإبداع الشعرى للمبدع الشامل: المسرحى والشاعر والروائى والمناضل السياسى النرويجى «بيورنشتيرن بيورنسون» (1832 ــ 1910)، أول أديب نرويجى يحصل على نوبل للآداب عام 1903 (الثالث فى ترتيب أدباء نوبل ليس من بينهم إبسن). ويقدم لنا المترجم «بيورنسون» الشاعر من خلال أولا: ترجمة خطاب تسلمه لجائزة نوبل للأدب والمعنونة: الفن ومغزى الحياة. ثانيا: تقديم مكثف لحياته. ثالثا: ترجمة المقدمة الدراسية لأشعاره. ورابعا وأخيرا: إنتاج «بيورنسون» الشعرى الذى يبلغ 130 قصيدة وأغنية.

(2)

بيورنشتيرن بيورنسون: صوت النرويج الصادق والشجاع والحر

يوصف «بيورنسون» بأنه صوت النرويج الصادق. وكيف لا يكون كذلك وهو الذى أبدع لشعب النرويج أغنيته القومية، من خلال تأليفه للنشيد الوطنى النرويجى (1859) الذى جعل مواطنيه على اختلاف ألوانهم السياسية يتوحدون حول كلماته القائلة:

نعم نحن (نحب) هذه الأرض التى تعلو وتسمو.

ففى أغنيته الخالدة للنرويج استطاع «بيورنسون» أن يلخص تاريخ النرويج من خلال التأكيد على: وحدة المملكة، ونضالاتها، وتمجيد شخصيات فى تاريخ النرويج قامت بأعمال جليلة سياسية وثقافية ومدنية وعسكرية من أجل استقلال ورفعة النرويج، وفى نفس الوقت لا يفوته أن يحيى نضال المواطنين رجالا ونساءً عبر العصور فى مواجهة الإقطاع وسلطة روما الكنسية والغزاة، فيقول: وحمل الفلاحون فؤوسهم المشحوذة وكسروا زهو الغازين، وغالبا ما كانت تقفز النساء إلى السلاح بنفس هيئة الرجال فى أفعالهم..فولدت الحرية ذات العيون الزرقاء.

اكتسب «بيورنسون» أهميته الأدبية من إبداعاته التى عكست لحظة تاريخية تصارع فيها النرويج من أجل الاستقلال من جهة والنهضة من جهة أخرى. لذلك حُقَ أن يكون هناك توافقا بأن «بيورنسون» و«الحرية المطلقة للنرويج والاستقلال قد نشأوا وكبروا معا»، وهو ما يتجلى فى قصيدة «وطننا» حيث يندفع الرجال والشباب والبنات الجميلات تحت شعار: «تقدموا، امضوا قدما من أجل الحرية، من أجل النرويج، هيا!».. مبينا فى قصيدة أخرى بعنوان «أغنية لمشاة النرويج» أن: «القتال من أجل حريتنا هو الغاية».. وعليه تتوحد الخطوات التى يصفها فى قصيدة «مسيرة» بقوله: «القدم اليسرى! القدم اليمنى! صفوف غير ملتوية! الذى جعل- واحدا- من الأكثرية، الأكثرية، التى تصنع الجرأة، إذا كان الخوف يتهيب بأى شخصية».

(3)

شاعر الوطنية النرويجية

«أغنية للنرويج» نموذج للإبداع المرتبط بنضالات المواطنين فى اللحظات التاريخية التى تنزع فيها الشعوب نحو الاستقلال والتحرر والتقدم. كما تعكس انحياز المبدع لقضايا وطنه التى يقوم فيها الشاعر، بحسب وصفه فى قصيدة من أجمل القصائد بعنوان «الشاعر»: «بأفعال الأنبياء فى أوقات الشدة من أجل حياة جديدة غناء».. لذا استحق «بيورنسون» عن جدارة أن يكون من المثقفين والمبدعين الذين «تجسدت الروح الوطنية النرويجية» فيهم. أن يكون أدبه معبرا عن مرحلة هامة فى تاريخ النرويج التى بدأت نهضتها فى عام 1905، وخلال مائة عام أصبحت من دول المقدمة.. وفى مئوية حصول «بيورنسون» على نوبل للأدب أى فى 2003 تأسست الأكاديمية النرويجية للآداب وحرية التعبير، حيث خصصت جائزة سنوية باسم أديب نوبل النرويجى الأول. تحية للأستاذ «ياسر شعبان» على اكتشافاته الثرية للأدب النرويجى، وخريطة أدبائه المتنوعة القدامى والمحدثين التى تؤكد غياب رؤية حاكمة لحركة الترجمة «تكفل متابعة» الإبداعات العالمية قديمها وجديدها بتياراتها المختلفة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern