محمد عفيفى المؤرخ المتميز

«كتابة تاريخية مغايرة»

قرأت للصديق العزيز الدكتور «محمد عفيفى» قبل أن أعرفه، ففى نهاية الثمانينيات كنت فى زيارة لأستاذنا المفكر الكبير وليم سليمان قلادة (1924- 1999) فى منزله، وكعادته كان دائمًا، وبعد الانتهاء من الحديث عن الأحوال العامة، يبدأ فى عرض ما لديه من جديد المعرفة. وفى هذه الزيارة كان لديه صورة من نص رسالة بعنوان «الأقباط فى مصر فى العصر العثمانى». وكان فرحًا بها جدًا. استأذنته فى الحصول على صورة من الرسالة لقراءتها على المهل. وما إن انتهيت منها حتى أدركت أهميتها وقيمتها ومدى تميزها فى مقاربة المصريين من المسيحيين فى حياتهم اليومية بصورة مختلفة عما دأبت عليه الكتابة الأكاديمية التاريخية الأجنبية فالمصرية.. كيف؟.. كانت الكتابة الأكاديمية التاريخية الأجنبية تعتمد تعبير «أهل الذمة» فى الحديث عن المسيحيين عمومًا وأقباط مصر خصوصًا.

وسارت على نفس النهج الكتابة الأكاديمية المصرية بداية من الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف: مصر الإسلامية وأهل الذمة ومرورًا بمجموعة كتابات اتبعت استخدام مصطلح «أهل الذمة»، وذلك فى عصور الحكم المتعاقبة التى وفدت من الخارج بداية من عصر الولاة، فالدولتين الطولونية والإخشيدية، فالعصرين الفاطميين الأول والثانى إلى الدولة الأيوبية. ثم جاء المؤرخ الكبير قاسم عبده قاسم الذى درس أوضاع الأقباط فى مصر زمن المماليك تحت مسمى الأقليات الدينية.. ولكن «عفيفى» استطاع أن يحفر مسارًا مغايرًا: من الأقباط كأهل ذمة إلى الأقباط المواطنين..

(2)

«التحرر من القراءة الدينية للتاريخ»

استطاع «عفيفى» أن يحرر الأقباط من المقاربة الدينية، متتبعًا حركتهم فى الحياة اليومية وأن يميز بين مَن هم فى قمة الجسم الاجتماعى وأدوارهم فى الجهاز الإدارى للدولة، كذلك علاقتهم بالمؤسسة الدينية وبين القابعين أسفل هذا الجسم، والذين كانوا يعانون شأنهم شأن الفقراء من المصريين المسلمين. كما أكد «عفيفى» أن الحالة المِلِّية التى عرفتها كثير من الولايات التابعة للدولة العثمانية قد قاومتها مصر، وذلك بإصرار الأقباط على عدم «الانعزال عن بقية عناصر المجتمع»، و«بالرفض التام لعهد الذمة».. لم يتوقف المسار المغاير الذى حفره «عفيفى» على مقاربته للأقباط- فقط- وإنما خوضه مغامرة دراسة العصر العثمانى، الذى امتد إلى خمسة قرون وحمل الكثير من التفاصيل والصراعات والتحولات الفارقة فى تاريخ مصر والمنطقة والعالم آنذاك.. ولا يمكن فهم جوهر العبور إلى التحديث المصرى والتقدم العالمى ما لم يتم فك شفرة/ شفرات الدولة العثمانية: اقتصاديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا.

وهو ما تمكن منه «عفيفى» ليس فقط بدراسته عن الأقباط وإنما بدراسته الرائدة عن «الأوقاف والحياة الاقتصادية فى مصر» فى العصر العثمانى، والتى كانت «عمادًا للحياة الاجتماعية» والاقتصادية المصرية.. ذلك لأنها أتاحت الكشف عن الكثير من جوانب الحياة المصرية مثل: خريطة التركيبة الاجتماعية/ الطبقية وكيفية وكمية توزع الثروة على كل مكون، خاصة أن 40% من إجمالى الأرض الزراعية كان موقوفًا- باعتبار الزراعة كانت النمط الرئيسى للإنتاج- والتجارة الداخلية والخارجية، والأثر الاجتماعى للأوقاف على عموم المصريين، إضافة إلى رسم صورة دقيقة لطبيعة جهاز الإدارة المصرية من جانب وكيفية إدارته لنظام الوقف من جانب آخر.. وهكذا حرر «عفيفى» الكتابة التاريخية عن: أولًا: الأقباط، وثانيًا: الدولة العثمانية التى قدسها بعض كتبة التاريخ، من القراءة الدينية.

(3)

«عفيفى: إبداع وتقدير»

واصل الدكتور «عفيفى» الكتابة التاريخية المتميزة بعد عمليه التأسيسيين المهمين من خلال الكثير من الجهود. وفى هذه الفترة مطلع التسعينيات التقينا حيث عرفته عن قرب وتوطدت صداقتنا ووجدت فيه إنسانًا جميلًا يملك روحًا سمحة وعينًا فنية وعقلًا متأنيًا، ما جعل أعماله تفلت من أسر كل من الأيديولوجيا والسرد التأريخى النمطى.. ولا أنسى أنه أحد أهم مَن أقنعنى بقبول منصب نائب محافظ القاهرة فى أغسطس 2011 وفق نصيحة رشيدة ومخلصة مدعومة بالتأصيل التاريخى والضرورة الآنية كأول مسيحى من خارج النخبة التقليدية يتولى هذا المنصب.

وكيف لا وهو الدارس «للدين والسياسة فى مصر» وأهمية الحضور المواطنى لجميع المصريين.. لذا استطاع أن يعبر عن حراك 25 يناير من خلال تطبيق منهج التاريخ الشفوى فى دراسته المبكرة: «معًا فى الهم العام: أصوات قبطية قبل 25 يناير».. وتنوعت كتاباته ليس فقط فى التاريخ وإنما فى الأدب والسينما والأمكنة.. إلخ.. مبروك صديقى «محمد» جائزة الدولة التقديرية.. نواصل..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern