«جدل القراءة والكتابة»
ينعقد معرض القاهرة الدولى للكتاب، هذا العام، تحت شعار «فى القراءة حياة»، وهى عبارة شديدة التكثيف تعبر عن مدى ما يعنيه «فعل» القراءة فى حياة كل منّا وقدرته على أن يجعلها أكثر نفعًا وقيمة تجاه أنفسنا ومن حولنا ومجتمعنا وعالمنا. وتتوقف القيمة والنفع على حسن وجودة اختيار الكتب، التى تتضمن كتابة نوعية تحمل جديدًا فكريًا ومعرفيًا يمثل إضافة لمجمل الكتابات المطروحة فى الساحة. ولا شك أن عملية اكتشاف الكتب ذات القيمة والنفع تُعد عملية شاقة وتحتاج إلى دأب وتدريب للتمييز بين الغث والسمين مما يتم طرحه بين ثنايا آلاف الصفحات التى تتكون منها الكتب المعروضة، ما يعنى أن هناك علاقة شرطية وجدلية بين ما نتطلع إليه من أجل حياة قيِّمة ونافعة بفعل القراءة وبين الحاجة إلى توفر- ومن ثَمَّ اكتشاف- الكتابات ذات النوعية المتجددة..
أى الكتابات التى تواكب العصر وتكتشف أسراره وتدرك ظواهره، وتجتهد فى إنتاج أفكار مبدعة وألمعية تثير الجدل والنقاش الحقيقى.. كتابات متحررة من التكرار والاجترار وإعادة الإنتاج لأفكار ذابلة لا تثير إلا الجلبة الفارغة أو ما أطلقت عليه مرة «سجالات الغلوشة».. وربما يكون السؤال: كيف للقارئ الساعى إلى حياة ذات معنى أن يدرك الكتابة المتجددة، أو جدل القراءة- الكتابة؟
(2)
«الكتابة المتجددة»
انشغل كثير من المبدعين بالإجابة عن هذا السؤال دائم الطرح بالرغم من التحولات الدائمة التى لحقت بالإنسانية وتاريخها الثقافى.. ما يعنى أن هذا السؤال قد مثّل هَمًّا فكريًا ونفسيًا ثقيلًا على مر العصور، ومن الإجابات المهمة التى يمكن أن نوردها هنا- فى حدود المساحة المتاحة- نشير إلى كل من الأديب البريطانى الأشهر جورج أورويل (1903- 1950)، صاحب «شريدا فى باريس ولندن- 1933»، و«مزرعة الحيوانات- 1945»، وغيرهما، وكذلك إلى الكبير «توفيق الحكيم» (1898- 1987).. فلقد انشغلا بتحديد ملامح الكتابة النوعية المتجددة، فى ضوء طرحهما على نفسيهما الأسئلة التالية: «لماذا أكتب؟ وماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ ولمَن أكتب؟».. حيث أعطانا مجمل الإجابات عن هذه الأسئلة سمات الكتابة المتجددة التى توفر قراءة تضمن حياة قيِّمة للإنسان/ المواطن المعاصر.. ونذكر- بتصرف- جانبًا من هذه الإجابات.
(3)
«الكتابة المتجددة عند أورويل»
قدم لنا «أورويل» إجابة مميزة حول سمات الكتابة المتجددة، فى مقال شهير له عنوانه «لماذا أكتب؟»، حيث عدَّدها للمبدعين- عمومًا- فى الآتى: أولًا: الرغبة الداخلية للكاتب فى أن ينجز عملًا نوعيًا مبتكرًا يحقق من خلاله ذاته ويبرز فيه موهبته وقدراته وتميزه عن أقرانه. ثانيًا: إبداع كتابة خالدة تبقى للأجيال القادمة، تعكس رؤية الكاتب السابقة لعصره وزمنه ومُجايليه. ثالثًا: إنجاز كتابة- ليس فقط- قادرة على تغيير حياة قارئها، وإنما دافعة له إلى أن يكون مبادرًا بالحضور الفاعل فى تقدم مجتمعه إلى الأفضل. رابعًا: ضرورة أن تجمع الكتابة بين الجماليات المتنوعة المطلوبة فى الكتابة وبين أفكار تمس واقع الإنسان/ المواطن، فتضىء ما خفى عليه، فتزيده وعيًا وحيوية.
(4)
«الكتابة المتجددة عند الحكيم»
فى كتابه «أدب الحياة» (1965)، يقول «توفيق الحكيم»، موجهًا حديثه إلى المبدعين من الأدباء بالانتباه إلى ما يلى: «اكتبوا للشعب مع الاحتفاظ بكل مقومات الأدب الحق.. أى اجعلوا من الأدب وجهين: وجهًا يجذب إليه الشعب بما فيه من طلاقة وبساطة ومرح وتشويق، ووجهًا ترى فيه الجد، ويرى فيه المتأمل قيم الأدب العظيم».. إنها محاولة شديدة الصعوبة، ولكنها واجبة، وتُعد عنصرًا أساسيًا فى مدى نزاهة الكاتب الفكرية والجمالية من حيث حرصه على الجمع بين السلاسة والجمال والأصالة الفكرية.. ما يعنى الوصول إلى أوسع نطاق ممكن من القراء دون الإخلال بالمضمون.
(5)
«القراءة- الكتابة: وجهان لعملية واحدة»
وبعد، فالقراءة والكتابة هما وجهان- ليس لعملة- وإنما لعملية إنسانية واحدة.. فلا يمكن ممارسة قراءة تحقق لنا حياة ذات معنى دون كتابة جادة- لا أقصد متجهمة، بل سلسة وجميلة تتناول قضايا حقيقية بمقاربات موضوعية- تراعى أن القراء مختلفون- ولا شك- فى تحيزاتهم وميولهم وظروفهم وذائقتهم.. نواصل..