لمن يكتبون.. وماذا؟

(1) «جيل جديد: ذائقة أخرى وخيارات مختلفة»

منذ عدة سنوات، استوقفنى خبر عن الحشد الشبابى الذى احتشد انتظارًا لأحد الشعراء الشبان فى إحدى فعاليات معرض الكتاب آنذاك.. الخبر فى ذاته لا غبار عليه. كما أن من حق أى مجموعة أن تحتفى بمبدعيها كيفما ترى. ولكن الملابسات التى واكبت هذا اللقاء كانت لافتة للنظر للأسباب التالية: أولها: أن الشباب الحاشد قد ذهب قبل موعد اللقاء بأربع ساعات تقريبا. بالطبع، جيد أن يحترم المرء المواعيد، ولكن المفارقة أن القادمين مبكرًا جاءوا فى موعد ندوة كانت تسبق لقاء الشاعر واحتلوا القاعة بالكامل. ذلك لأنه لم يحضر أحد للمشاركة فى الندوة إلا المتكلمين

(ويشار هنا إلى أن الندوة كانت تتعلق بتأبين أحد رواد الفكر التربوى المصرى).. ثانيها: الكيفية التى انتظم فيها هؤلاء الشباب لحضور لقاء الشاعر الشاب. فالأكيد أن الدعاية لم تكن كافية لاحتشادهم. ثالثها: هو بقاء الشباب ثلاث ساعات متواصلة تالية فى حالة تفاعل مع الشاعر الشاب يستمعون لشعره ويتسابقون لتوقيعه على أحد دواوينه.. وفى الواقع، أثارت هذه الواقعة الكثير فى ذهنى ونفسى. فلقد تولد لدىَّ فضول - معرفى - يدفعنى لمحاولة فهم هذه الواقعة، فكتبت عنها فى حينها، أملًا فى أن يدور حوار حولها، وقلت إننا أمام ظاهرة تحتاج إلى فهم وتفسير. وخلصت - آنذاك - إلى أننا أمام شباب يؤسس لزمن خاص به، يصنعون فيه من يرون أنهم يعبرون عنهم بغض النظر عن أى مقاييس. فالمهم هو ما يمكن أن نطلق عليه «لحظة المتعة الجمعية الشبابية» ذات الذائقة والخيارات المختلفة.. فزمن الكاتب الأوحد والمطرب العابر للأجيال قد ولّى.. كذلك هناك وسائل تواصل شبكى يحققون بها الحشد والتعبئة والجماهيرية خارج الوسائل التقليدية الموجهة بالأساس لمبدع اللحظة الذين يقومون باستبدال إيقاع متسارع به.

(2) «أدب الديستوبيا»

وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على الواقعة السابقة، يمكن القول إن هناك موجة أدبية، جمهورها الأساس من الشباب من جيل ما أطلقنا عليه: جيل «ما بعد جوجل»، أو ما بات يعرف فى الأدبيات العالمية بجيل «زد».. جيل مرجعيته محركات البحث الرقمى والقيم الناتجة عن التحولات التى لحقت بمجتمعاتنا العربية التى كشفت مدى اختلالات بنى هذه المجتمعات، ومدى الأوهام التى خلقتها ودأبت على تواصلها جيل بعد جيل، إلى أن اصطدمت بجيل تشكل عقله ووجدانه عبر «جوجل» والمحركات والمنصات الرقمية فائقة القدرة والانتشار.. ومن ثم تنبه إلى «وهم الأوهام» واستحالة تحقيق أى «يوتوبيات» (مدن/ مساحات فاضلة) تم التبشير بها.. وعليه انطلقت الموجة الأدبية الشبابية التى تتجاوز الواقعية بمعناها الكلاسيكى لتتعاطى مع مآسى الواقع، والنزوع البشرى - الراهن - «التدميرى» (إذا ما استعرنا تعبير عالم النفس العبقرى الألمانى/ الأمريكى إريك فروم 1900 - 1980)؛ وهو النزوع الذى فرضته حالة مجتمعية عالمية ـ بدرجات متفاوتة حسب درجة تقدم كل مجتمع/ دولة - تتسم بالمأساوية والقبح والغموض والقلق والبؤس واليأس والاختلالات البنيوية فى شتى المجالات.. مجتمعات مرتبكة من جراء «الجوائح الفيروسية والبيئية والجوائر الاستغلالية الاقتصادية والاجتماعية» التى ضاعفت من الرعب والإحساس بمدى توحش اللحظة التاريخية التى تمر بها الإنسانية.. لذا ليس غريبا أن يوصف هذا الأدب الذى يلقى رواجا لدى شباب «زد» بـ«أدب الديستوبيا» أو أدب الخراب والفساد والكوابيس، الذى يمثل نقيضا لأدب الفضائل والنهايات المانحة للأمل والمتطلعة للمستقبل الأفضل والمنتصرة للخير.

(3) «فى ضرورة الفهم»

لاشك أن هذه النوعية من الكتابة موجودة منذ زمن. ففى زمن ما بين الحربين العالميتين، عرف العالم كتابات «كافكا» و«أورويل» وغيرهما؛ إلا أنها كانت لونا من ضمن الألوان الأدبية. بينما ـ فيما أتصور ويتصور غيرى ـ أن هذا اللون قد ساد فى الآونة الأخيرة بشكل يحتاج منا إلى ما هو أكثر من النقد الأدبى النمطى إلى دراسة متعددة الأبعاد نفهم من خلالها ـ بقدر الإمكان ـ ونجيب من خلالها على ما يلى: لماذا ساد هذا اللون الأدبى؟ ومن هى القاعدة الاجتماعية التى يقوم عليها هذا اللون الأدبى؟ وما موضوعاته وقضاياه وعُقده؟.. إلخ. باختصار: ماذا يكتبون؟ ولمن؟.نواصل..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern