دراما الناس..

«ولاد الناس يتعرضون لحادث»؛

كان كل شىء يسير فى مساره الطبيعى. أو هكذا كان يظن الجميع: أولياء الأمور وبناتهم وأبناؤهم.. فمع شروق كل نهار يذهب البنات والأبناء إلى المدرسة الاستثمارية «بالباصات»، وينشغل أولياء أمورهم بعوالمهم المختلفة. وفى أحد الأيام، ينقلب أوتوبيس من أوتوبيسات المدرسة فى طريق إعادته لمجموعة من «ولاد الناس»، حيث يصاب الجميع: الطلبة والطالبات، إضافة إلى مشرفة «الباص» ويموت السائق فى الحال. وعندئذ تنقلب حياة 15 أسرة رأسا على عقب.. أو لنقل- بدقة- يتعرى كل شىء.. هذه هى خلاصة مسلسل «ولاد ناس»، الذى عرض منه حتى كتابة هذا المقال 13 حلقة..

يقدم لنا المسلسل عملا فنيا بديعا عن حياة «الناس وولادهم»: عالم الأولاد/ البنات فى هذا الزمن، والعلاقات البينية للأولاد/ للبنات وأهاليهم، والأسر المصرية وعلاقتها بمنظومة التربية والتعليم، وأحوال المؤسسة التعليمية خاصة الاستثمارية منها.. فلقد كشفت الحادثة أول ما كشفت أن ما كان يظنه الجميع حياة طبيعية ومستقرة تأتى الحادثة لتكشف وهم هذا الظن.. وثانى ما كشفته الحادثة هو التواطؤ المتورط فيه الجميع بأن الدنيا بألف خير بينما الواقع ليس كما يظنون.. وهو ما يتبين عندما يقدم المسلسل تفاصيل حياة المصابين التى تشكل فى المجمل- حتى الحلقة 13- صورة كلية للواقع المجتمعى الراهن تثير الكثير من الانفعالات والأفكار المتداخلة والمركبة.. حيث يتم ذلك بنعومة فنية وذهنية ممتعة..

(2)

«كشف الصورة الزائفة»؛

فبالرغم من تعدد وتعقد الخطوط الدرامية للمسلسل إلا أن المؤلف- الذى هو نفسه مخرج العمل- يعيد نسجها بسلاسة ومهارة. فنراه يلجأ «للفلاش باك» لتقديم خلفية عن حياة كل حالة من الحالات التى يحملها «الباص» صباح ومساء كل يوم فى طريق الذهاب إلى المدرسة والعودة منها. فلقد أثبتت الحادثة أن هناك سياقا مجتمعيا يجمع المصابين وعائلاتهم على اختلافهم. وأن الظاهر التربوى والتعليمى ليس حقيقيا بالتمام، حيث يتسم بالكثير من الثقوب والعيوب. بعض منها بسبب السياق المجتمعى والبعض الآخر بسبب تقاعسهم فى مواجهتها جهلا أو هربا.. وتؤكد ردود الأفعال المختلفة على ما أصاب المجتمع من اختلالات بنيوية.

فمن جانب، نجد إدارة المدرسة تحاول جاهدة أن تتملص من المسؤولية: «بتستيف» الأوراق، وتدفع فى اتجاه تحميلها للسائق الفقير بالرغم من المصروفات الكثيرة- جدا- التى تحملها على الأهالى: بتعبئة الإعلام فى هذا الاتجاه، وأخيرا بتوظيف القانون لصالحهم.. ومن جانب آخر، نجد عدم قدرة أولياء الأمور فى الاتفاق على الكيفية التى يحفظون بها حقوق «ولادهم» والكشف عن الجانى الحقيقى.. فما بين يائس من نتيجة مقاضاة المدرسة. وما بين خائف لا يريد أن تظهر التحقيقات حقائق تمس الحياة السرية لبعض الأهالى وانحرافات بعض «الولاد». وما بين مصالح ومنافع بين بعض الآباء وإدارة المدرسة، يضعف موقف المتحمسين لإقامة الدعوى الجنائية.. ولا يحول ما سبق دون الكشف عن أن الصورة الظاهرة: المستقرة والطبيعية، ما هى إلا صورة زائفة تخفى أخرى حقيقية.. ما يحرك المراجعات فى نفوس وعقول المتضررين.

(3)

«دراما حقيقية جميلة»؛

اختار المؤلف/ المخرج الشريحتين الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى لمعرفة مدى قدرتهما على الاستجابة لاختبار حياتى حقيقى يربك استقرارهما المتوهم. فباعتبارهما العمود الفقرى للجسم الاجتماعى، فإن ردود أفعالهما فى الواقع تكون انعكاسا لواقع المجتمع فى العموم ولواقع هاتين الشريحتين على وجه الخصوص.. وأن تأمين الحياة من خلال الفوائض المالية سواء جاءت بجهد مشروع أو غير مشروع لا يعد كافيا لحماية «ولاد الناس» من سياق اجتماعى تحكمه قوانين- ومن ثم أخلاق- السوق. كل ما سبق يتم التعبير عنه دون خطابة، أو أحكام أيديولوجية أو سياسية مسبقة، بل يتم من خلال محاولة جادة لإبداع عمل فنى متميز يثير فينا «انفعالا جماليا»- بحسب تعبير أحد نقاد الفن البارزين كلايف بل- يتميز: «بالمتعة، والانفتاح الخيالى، والحدس المعرفى، والنشوة، وبنفحة من الدفء الإنسانى، والأمل، والعزة،...». وثقتى أن هذا الانفعال الجمالى بالعمل نتج عن صدق الموضوع.. فالموضوع حقيقى لأنه عنا وعن حياة الناس وعلاقاتهم وعن السياق الاجتماعى.. ما ساهم فى أن ينجح فريق العمل- ومن خلال بطولة جماعية- أن يقدم «تشكيلا فريدا» يثير الإعجاب والتفكير بهدوء.. أدعوكم لمشاهدته.. نواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern