أوباما: "معا..نحلم ونعمل"

بعبارة موجزة -يمكن القول – لايوجد اختلاف جذرى بين لمتنافسين على الرئاسة الأمريكية من الحزبين الجمهورى والديمقراطى حول تصوراتهم للسياسة الخارجية… فالقراءة التاريخية تقول إن هناك فكرة محورية تحكم هذه السياسة ألا وهى “أن قيم أمريكا ومؤسساتها لابد أن تمتد إلى العالم كله”, إما باستخدام القوة بحسب تيودور روزفلت صاحب سياسة العصا الغليظة, أو بتمثل الأمم الأخرى القيم الأمريكية كما نادى ويلسون, ولو باستخدام القوة, فحديث القيم لم يمنع من المشاركة فى الحرب العالمية الأولى.. ويؤكد ماسبق الموقف الحالى للمرشحين من العراق, حيث الاتفاق على البقاء والاختلاف فى مقدار الانسحاب وتوقيته, طالما بقى النفط.. والموقف من إسرائيل.


وطغى عدم الاختلاف الجذرى حول السياسة الخارجية, إلى عدم الاهتمام برؤى المتنافسين على الرئاسة حول الداخل الأمريكى.. بيد أن متابعة المنافسة الجارية حاليا بين مرشحى الحزب الديمقراطى أوباما وهيلارى كلينتون حول تصوراتهما فيما يتعلق بالشأن الداخلى الأمريكى مهمة للغاية لأنها تعكس فى الواقع ثلاثة أمور: الأول أن الحزب فى أمريكا ما هو إلا تجمع لجماعات مصالح أكثر منه تعبيرا عن طبقة بعينها أو شريحة اجتماعية معينة, وهو ما يؤكده الاختلاف بين مرشحى الحزب الواحد وتوجه كل مرشح لكتل تصويتية للحصول على أصواتها تتناقض كليا فيما بينها. الثانى وجود تحولات مهمة فى الواقع الاجتماعى الأمريكى تعكسها خطابات المرشحين. الثالث ويتعلق بأوباما تحديدا, حيث نجده يحاول أن يبلور خطابا يحمل بعد اجتماعيا واقتصاديا يعنى فيه بالطبقات الوسطى والدنيا, والذى يحلل فيه أوضاعها بمنهجية أنها غير جامدة وإنما ديناميكية, متجاوزا فيه مضمون الخطاب التقليدى السائد تاريخيا المطالبى والخدمى الذى لا يعنى بالبعد الاجتماعى وينطلق من رؤية تتعامل مع الجسم الاجتماعى باعتباره جسما ساكنا.


مما سبق ربما يكون من المفيد أن نعرض لبعض ما طرحه باراك أوباما من أفكار تعكس كيف استطاع هذا المرشح الشاب أن يحقق ما يلى:
• تجاوز أطروحات من سبقه من القيادات السوداء.. فإذا كان مارتن لوثر كينج(الذىحلت ذكرى اغتياله الأربعون هذا الشهر)كان يناضل من أجل الحقوق المدنية للسود, وإذا كان القس جيسى جاكسون لم يستطع أن يتخلص من تركيزه على الكتلة التصويتية السوداء أثناء حملته الانتخابية. فإن أوباما استطاع أن يكون مرشحا ليس للسود فقط بل لشرائح من البيض.


• العناية بتحليل الواقع الاقتصادى والاجتماعى الأمريكى طارحا رؤية تتجاوز الرؤية السكونية التى فرضها المحافظون: السياسيون والينيون.
ولعل خطابه الذى ألقى فى فيلادلفيا فى 18مارس الماضى, من أهم ما طرح أوباما ولا يقل – بكل المقاييس – عن خطاب مارتن لوثر كينج الشهير باسم “I have ADream.. ففى خطاب أوباما المعنون “نحو اتحاد كامل”… لم يكن دافعه أن يؤكد ما أنجزته حركة الحقوق المدنية فى الستينيات من استصدار قانون التمييز الإيجابى للسود الذى ضمن لهم “كوتة” فى العديد من المجالات, وانما كان هدفه هو تحقيق الاندماج بين كل الأمريكيين فى إطار الوطن الواحد على قاعدة المواطنة…لماذا يقول هذا وكيف يمكن تحقيق ما يصبو إليه؟.


يقول أوباما: “…إن الوثيقة الدستورية التى وقعت قبل 221 عاما.. قدمت إجابة عن السؤال حول مسألة العبودية من خلال فكرة جوهرية/ أنموذج هى: المساواة فى المواطنة.. دستور وعد شعبه بالحرية والعدالة, وباتحاد – بين الأمريكيين – يمكن ويجب تحقيق كماله عبر الوقت.. بيد أن ما تم خطه على الورق لم يكن كافيا لتحرير أسر العبيد, أو تدعيم الرجال والنساء بغض النظر عن اللون والعقيدة بكامل حقوقهم… كمواطنين أمريكيين.. وهو ما احتاج من المواطنين الأمريكيين – على مدى أجيال – أن يتحركوا من خلال احتجاجات ونضالات من أجل تضييق الفجوة بين المثل التى وعدوا بها وبين الواقع.”


• ويستطرد أوباما “أنها واحدة من مهام حملتنا أن نواصل المسيرة الطويلة التى بدأت.. مسيرة عنوانها: العدل والمساواة والحرية… لكل الأمريكيين”. ” فنحن لن نستطيع أن نحل التحديات التى تواجهنا الآن إلا إذا قمنا بذلك معا, ومن ثم نحقق الاتحاد الكامل.. وأن نفهم أن لدى كل منا رؤاه وتحيزاته وانه ينحدر من سياق مختلف ولكننا – ولأننا نعيش معا – لدينا آمال مشتركة تدفعنا نحو مستقبل أفضل لأولادنا وأحفادنا”.


• انطلاقا مما سبق, يروى أوباما قصته.. ويبدأها من أصوله العرقية ولكن بوعى يضع هذا الأمر فى السياق الاجتماعى التاريخى.. مؤكدا أهمية الاندماج رافضا أن يقدم نفسه مرشحا عرقيا لفئة بعينها ” بالرغم من إغراء النظر إلى ترشحى من عدسة – محض – عرقية”.. ويرفض كذلك التلميح بأن ترشحه هو أحد “تطبيقات التمييز الإيجابى”.. إنه “منحنى لتقسيم الأمة”. فالأمة فى نظره “أكثر من مجموع أجزائها”.. ويشدد على ضرورة الحاجة إلى:
• الوحدة فى مواجهة اقتصاد يتهاوى, ورعاية صحية تعانى أزمة حادة,.. مشكلات ليست سوداء أو بيضاء ولا لاتينية أو آسيوية.. مشكلات نواجهها كلنا”..
ويشير بذكاء شديد إلى ضرورة الحديث عن حقيقة أن المشكلة فيمن يحصل على وظيفتك بدون وجه حق لايمكن بسبب الاختلاف.. وانما لأن الشركة قد تنقل هذه الوظيفة الى عبر البحار من أجل المكسب”..


واقع الحال لا يقف أوباما عند التفسيرات الوصفية للظواهر وإنما يطرح تحليلا أكثر تركيبا ربما لم تعرفه أمريكا منذ ستينيات القرن الماضى…فيقدم قراءة دقيقة لوضع السود ولكن ليس من منظور عرقى ولكن اقتصادى/اجتماعى, حيث يظهر وعيا وتفهما أن الغضب الذى لدى السود من الفقراء يوجد فى مقابله “غضب مماثل موجود فى قطاعات من البيض.. فمعظم الأمريكيين البيض ممن ينتمون إلى الطبقة العاملة والمتوسطة لايشعرون بأن لونهم الأبيض يمنحهم أية امتيازات”.. ومن ثم فهذه الفئات قلقة على مستقبلها.. ولن من خلال العمل معها يمكن بناء اتحاد أكثر كمالا.. بتجاوز الماضى المأساوى.. والإيمان بأن أمريكا قادرة على التغيير.. ورفض التعاطى مع المجتمع بأنه “مجتمع جامد” يجب أن يبقى كما هو (وهنا نشير إلى ملاحظته المهمة حول الطبقة العمالية حول تدينها المفرط الى امتلاكها الأسلحة, هربا من مواجهة الواقع السياسى ومرارتها من عدم اهتمام الجهات المعنية بأحوال هذه الطبقة. ( خطاب سان فرانسيسكوبتاريخ 10/4).
واقع الحال يفتح خطاب أوباما أفقا للحديث عن المسكوت عنه فى الواقع الأمريكى, لذا لم يكن غريبا أن يلقى قبولا من فئات من الجيل الشاب من البيض.. بسبب دعوته للتغيير.. وشعاره الذى صكه فى خطاب فيلادلفيا: ” يجب ألا يحلم البعض على حساب أحلام البعض الآخر.. معا نحلم ونعمل”.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern