«فجر التاريخ»
فى كتابه الذى اكتسب الخلود من موضوعه حول مصر الخالدة، دوما، «فجر الضمير» لعالم المصريات الأمريكى «جيمس هنرى برستيد» (1865- 1935)، يقول عالم الآثار المصرى «سليم حسن» (1893- 1961)، فى تقديمه لترجمة الكتاب: «البلاد العريقة فى المجد كالشجرة المباركة الطيبة، تؤتى أكلها كل حين، وتنبت بين آونة وأخرى أفذاذا تجرى فى دمائهم قوة العزة القومية والمجد التليد، فيشعرون بعظمة بلادهم، وما كان لها من تاريخ مجيد، فتنطلق ألسنتهم مُعبرة عن ذلك بالإلهام المحض».. ما كتبه «سليم حسن» عام 1956 أظنه يصدق على ردة فعل المصريين حيال الاحتفال الذى جرى منذ ثلاثة أيام بمناسبة افتتاح متحف الحضارة الجديد الذى استقبل فى موكب مهيب مجموعة من المومياوات لتحتضنها أروقته.. حيث خلقت حالة شعورية مركبة بمدى عراقة وخلود هذا الوطن، أو ما يمكن أن نطلق عليه:
«القدرة الفائقة على الاستمرارية الحضارية».. وهى قدرة لم تكن لتتوفر للحضارة المصرية ما لم تحمل فى جوهرها القدر المعتبر من المقومات: القيمية والفكرية والعلمية، ما يضمن لها، ليس فقط، البقاء عبر آلاف السنوات، وإنما التأثير أيضا على الألباب والأفئدة... وكيف لا ومصر قائمة منذ فجر التاريخ، أو بحسب القول الشائع أول نور فى الدنيا، ومن ثم فجر الضمير والمدنية، الضمير بتجسيداته من قيم وأفكار وتفكير... والمدنية بتجلياتها من كتابة وابتكار وزراعة وهندسة... ما جعل مصر- حصريا- بأن تكون دائما «الفصل الأول فى كتب التاريخ» بحسب «محمد العزب موسى» فى كتابه «وحدة تاريخ مصر» (سلسلة الهوية رقم 9، قصور الثقافة، 2020)...
(2)
«سر المِصرية»
إن الإعجاب الذى أطلقه الاحتفال يوجب علينا ألا نتوقف عند الحدث وإنما أن ندرك سر/ أسرار الحضارة المصرية... أو ما يمكن أن نطلق عليه: «سر المصرية» كحضارة متواصلة الحضور فى حياة المصريين بالرغم من التفاعلات الثقافية التى تفاعلوا معها، داخليا وخارجيا، والتحولات الدينية التى انخرطوا فيها والأنظمة السياسية الحاكمة التى تعاقبت عليهم سواء وطنية أو وافدة عبر آلاف السنين... أخذا فى الاعتبار أن «المِصرية» التى نقصدها تتجاوز الفهم: الضيق والخانق والساكن لها... وذلك بحبسها فى زمن بعينه، أو تقييدها بالشوفينية (التعصب الأجوف)... المِصرية لدينا هى حالة حضارية ديناميكية ذات مضمون قيمى ثرى وعميق انطلقت مع مبدأ الحضارة واستمرت عبر الزمان... حيث حملت أسسها القيمية منذ فجر التاريخ وتفاعلت عبر عناصرها البشرية مع ما استجد عليها من مستجدات مادية ومعنوية... ما منحها حيوية التجدد أو ما أطلق عليه العالم الجليل «محمد شفيق غربال» (1894- 1961) فى كتابه العمدة «تكوين مصر- 1957»: «الاستمرارية والتغيير»... فباتت مصر «هبة المصريين»، شأنها شأن النيل: «فكما أن النيل قديم يشق المجرى نفسه منذ آلاف السنين، إلا أن مياهه جارية ومتجددة، كذلك مصر عريقة قائمة بلا انقطاع، والحياة فيها مستمرة ومتجددة»... إنها «المِصرية» التى يشعر بها أى مصرى على اختلاف طبقته أو ثقافته أو دينه أو عمره أو جنسه أو لونه أو...، فى: لحظات الانتصار والانكسار، وداخل الوطن وفى الغربة... إلخ، على السواء...
(3)
«تجديد الوعى الحضارى»
لن يتأتى لنا إدراك سر المِصرية ما لم نطلع على قيمنا الحضارية التأسيسية واشتباكاتها المتنوعة عبر التاريخ وكيف ألهمت الكثيرين فى فترات العزة القومية إبداعات قومية مصرية متميزة وكيف يمكن أن تلهمنا فى حاضرنا ومستقبلنا المزيد من الإبداعات... الإبداعات هى التى تؤكد- بحسب محمد حسين هيكل (1888- 1956)- «الارتباط الوثيق بين مصر القديمة والحديثة)... وبلغة أخرى نقول إن النزعة القومية الحديثة، فى مجالات الموسيقى والعمارة والأدب والفن والسياسة والثقافة والفكر، قامت من خلال إبداعات استلهمت محصلة القيم المصرية، (ضربا وجمعا)، سواء التأسيسية التى تأسست مبدأ التاريخ، أو المستجدة عبر التاريخ... إبداعات لابد من التواصل معها لأن ذلك هو سبيلنا لأى انطلاق مستقبلى... ومن ثم لابد أن توفر مناهجنا التعليمية، ووسائلنا الإعلامية الرقمية والمرئية والمسموعة والورقية، ومجالاتنا الثقافية المتنوعة ما يحقق تجديد وعى المصريين «بالمِصرية» وقدرة قيمها التنويرية... ونواصل.