أحلام فترة العزلة: الكتب عشق ووعي وقدرة

يأسرنى، جدا، مشهد النهاية فى فيلم المكتبة (2017) الذى تبدو فيه بطلة الفيلم الأرملة الشابة «فلورنس جرين» وهى تغادر المدينة الساحلية الإنجليزية الصغيرة على ظهر مركب صغير، بمثابة معدية لأقرب مركز حضرى فى إنجلترا 1959، وفى وداعها على المرفأ الصغير جدا إحدى فتيات المدينة تحمل كتابا لم تكن قد أعادته للمكتبة قبل أن تضطر صاحبتها ــ تحت ضغط وتهديد ــ أن تبيع المكتبة نتيجة تواطؤ بين إحدى العائلات الثرية والسياسيين المحليين لإقامة مشروع تجارى بتشريع محلى فاسد... فبعيدا عن مشاهد الوداع النمطية، نجد الفتاة تحدق فى صاحبة المكتبة والمركب يبتعد ببطء يحمل خليطًا من المشاعر، منها: التقدير على ما قامت به، والعتاب على استسلامها، والثقة أن أثر الكتب على حياتها وحياة أقرانها لن يذهب سدى... وفى المقابل قامت صاحبة المكتبة ممتنة لهذا الوداع ممتنة ومعتذرة...

يلى هذا المشهد الوداعى، الذى تظهر فى خلفيته ألسنة دخان عاكسا حرق المكتبة، مرور وقت زمنى ممتد حيث تظهر الفتاة الصغيرة وقد كبرت وأسست مكتبة تؤمن مددا ثقافيا للأجيال التالية... ويسمع المشاهد صوتا داخليا للفتاة يقول: «لا أحد يشعر بالوحدة وسط الكتب»... فما تتضمنه الكتب ينتقل إلى المرء ومنه إلى الآخرين: إلهاما وتوجيها... كما يظل زخم الأفكار ــ على اختلافها ــ حيا وممتدا عبر الأجيال... فيلم المكتبة هو فى الأصل رواية للأديبة البريطانية «بينيلوب فيتزجيرالد (1916 ـ 2000) التى حصلت على البوكر عام 1979... والفيلم على بساطته إلا أننى أظنه من الأعمال الناعمة والعميقة... إنه حلم راقٍ مدهش يستحضر عالم الكتب...

(2) «الحياة للكتب وبالكتب»؛

لا يمكن الحديث عن عالم الكتب والمكتبات ما لم نذكر الأديب الأرجنتينى «ألبرتو مانجويل» (73 عاما)، الذى أتصوره الحارس الأمين للمكتبة ــ الذى تخصص فى الكتابة عنها وعن عالم القراءة والكتب ــ ليس باعتبارها «مكانا للترتيب أو للفوضى»، أو مساحة جامدة... بل كونها عالما ينبض بالحياة يحمل فى أحشائه دررا حية من: القيم والأفكار والخبرات،...إلخ، تقدم المشورة، والسند، والدعم الذهنى والنفسى والعاطفى والروحى، والتوجيه، والتكوين المعرفى والإدراكى والثقافى... وتتيح الاندهاش، والاشتباك، والتوقف، والجدل، وبالانشغال الجاد، والخروج على المألوف، وتمنح الملاذ، والبوح بالأسرار،... إنها ــ بحسب «مانجويل»: «أمكنة جامحة تبعث على الحبور» والتحريض... يشعر فيها المرء «بمتعة المغامرة وسط الأكداس الكثيفة» من الكتب دون خوف... ومن أين يأتى الخوف وهم الأصدقاء المحبون الذين يشيحون الهموم ويكشفون الأسرار المخفيات ويؤمنون بالقدرة على مواجهة المستحيلات... لا يحول التنظيم الوهمى: دفتريا كان أو رقميا؛ وألعاب التصنيف والتبويب والفهرسة والترتيب، عن فضاء الحرية المطلقة الذى يعيشه المرء فى حضن المكتبة، يحتضن الكتاب تلو الكتاب... صحيح ينبه «دكتور شون ماجواير» الطبيب النفسى (المُذهل «روبن وليامز» والذى حصُل على أوسكار عن هذا الدور) الذى كان يعالج بطل فيلم «Good Will Hunting» (إنتاج 1997 ونال أوسكار أحسن سيناريو)؛ العبقرى فى الرياضيات، بالفطرة، والموسوعى الثقافة، بالنهم المطلق للقراءة، «ويل هانتينج» (مات ديمون)؛ من أن معرفته غير الطبيعية بما تضمنته الكتب من إبداعات واجتهادات تحتاج إلى الاختبار العملى الحياتى... إلا أن عملية العلاج النفسى برهنت ــ والتى لم تكن فى اتجاه واحد، بل كانت فى اتجاهين، حيث استفاد بها الطبيب بقدر ما استفاد منها المريض المتمرد ــ قد أثبتت أنه بقدر ما هناك حاجة إلى اختبار محتوى الكتب فى الواقع العملى فإن هناك حاجة ــ أيضا ــ إلى التحصن فى مواجهة الحياة العملية بمضامين حصيلة التراث الإنسانى الإبداعى التى وردت فى الكتب... إنها علاقة جدلية بامتياز...

(3) «الكلمة نور»؛

بهذا المعنى تصير المعرفة قوة؛ وأن الأفكار والكلمات تحمل وهو ما عبرت عنه رواية الأديب الأمريكى «راى برادبيرى» (1920 ــ 2012) الأشهر: «451 فهرنهايت» التى مسرحها المسرح الأمريكى فى الخمسينيات، وجسدتها السينما العالمية مرتين: الأولى: عام 1966، والثانية عام 2018... حيث الأفكار تكون قادرة ــ دوما ــ على أن تكون مشرقة ومحلقة... وهو ما عبر عنه عبد الرحمن الشرقاوى (1921 ــ 1987) فى إحدى مسرحياته الشعرية:

«الكلمة نور... وبالكلمة تنكشف الغمة... الكلمة نور ودليل...»...

وبعد؛ الحياة للكتب وبالكتب تعنى: الوله والوعى والقدرة...

(4) أحلام فترة العزلة:

أحلام واعية (فيلمية وقلمية ونغمية) مثيرة للدهشة ودافعة للتفكير ومشجعة على التجدد...

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern