تحل هذه الأيام الذكرى الـ 65 لتأميم قناة السويس والقنال أكثر من مجرد مرفق حيوى مهم سواء لمصر أو للعالم، كما يقول الدكتور مصطفى الحفناوى الذى وهب حياته لقضية قناة السويس من خلال أطروحته المرجعية الخالدة «موسوعة قناة السويس...تاريخها وأصول مشكلاتها المعاصرة».
فقارئ هذه الموسوعة، وغيرها من مصادر لاحقة معتبرة، يمكنه أن يلحظ بكل يسر كيف أن قناة السويس المصرية هى تجسيد للذات الوطنية المصرية من خلال التاريخ الفاعل والجغرافية المؤثرة منذ القدم وتجلياتها من سيادة واستقلال ونماء.
فمنذ شق المصريون القناة فى عهد سيتى الأول، والد رمسيس الثانى، عُدت فى نظر المؤرخين أول قناة صناعية على وجه الأرض حيث سارت من النيل حتى السويس بطول 150 كيلومترا، وعرض 30مترا، وتراوح عمقها بين مترين وثلاثة أمتار، ومنها كانت تنطلق الملاحة إلى البحر الأحمر، ما وضع مصر على خريطة العالم، فلقد خلقت تواصلا عابرا للقارات: ثقافيا واقتصاديا...
واستمر هذا التواصل قرونا منذ الأسر الفرعونية مرورا بالعصر القبطى وحتى زمن المماليك، حيث تم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح فى سنة 1488، حينها تصورت القوى الأوروبية الاستعمارية بأنه يمكن أن يكون بديلا لمصر. إلا أن الواقع العملى والصراعات الأوروبية أكدا أنه لا مناص من إعادة حفر قناة فى برزخ السويس، وتجديد شق قناة السويس بشكل صريح بين البحرين، انطلاقا من أن مصر هى خير الطرق المؤدية إلى الهند وكنوزها ومنها يمكن استغلال بلاد الشرق الأقصى واجتياحها...ومنذ هذا التاريخ أصبح هاجس الأوروبيين، وبالأخص الفرنسيين، كيف يمكن تطويع وإخضاع مصر كموقع وسيط بين القارات للمصالح الاستعمارية البازغة؟!
وفى القسم الثالث من كتابنا «المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع» ــ 2020 والمعنون «تاريخنا وقناتنا: جدل الزمان والمكان» أشرنا إلى تأسيس القوى الاستعمارية شركات مالية وتجارية بينها وبين المستعمرات التى تسيطر عليها مثل شركة الهند التى أمر لويس الرابع عشر بتأسيسها سنة 1664 حيث منحها مسئولية السيطرة على تجارة بلاد الهند الشرقية وجزر فرنسا ومدغشقر، وكذلك البحر الأحمر ومن هنا وضع مشروع طريق السويس على بساط البحث». ومنذ مطلع القرن الثامن عشر دأب الإنجليز والفرنسيون على اقتناص حق ملكية وإدارة قناة السويس. وذلك من خلال أمرين: الأول: الدسائس والمؤامرات السياسية. والثانى: إحداث اضطرابات اقتصادية وسياسية مجتمعية داخلية، لتهيئة الطريق أمام التدخل الأجنبى لتحقيق المطمع الكبير ألا وهو حرمان مصر من سيادتها على قناة السويس، والسيطرة على الاقتصاد الوطنى ومقدراته. وعما سبق يقول مصطفى الحفناوى: من كل ما تقدم، تبدو للعيان مؤامرة الغرب ضد الشرق، وهى التى أسفرت عن مأساة قناة السويس فهى مؤامرة قديمة جدا وقد تداولتها أيدى الساسة والملوك ورجال المال والهندسة.
فى هذا السياق، انطلقت الحركة الوطنية المصرية تناضل من أجل استعادة السيادة على القناة وتحقيق الاستقلال الوطنى والاقتصادى لمصر فسعت نخبة 1919 عبر القانون والمفاوضات تدافع عن مصرية القناة لتأكيد الاستقلال لمصر والمصريين.وها هو جمال عبد الناصر، تاليا، يواجه الاستعمار بتأميم قناة السويس تأكيدا لملكية القناة وكان ذلك انطلاقا من أن الاستقلال الوطنى والسياسى لا بد لهما من استقلال اقتصادى، مما مهد لتأسيس قاعدة صناعية غير مسبوقة وبناء السد العالى... وقد مثل تأميم قناة السويس فى يوليو 1956 نقطة فاصلة فى التاريخ ليس المصرى أو الإقليمى فحسب، بل العالمى من حيث خلخلة المنظومة الاستعمارية التقليدية: البريطانية والفرنسية تحديدا، فيما وصفه هيكل بغروب شمس الإمبراطوريات القديمة. امتلاك الدول المستقلة حديثا مقدراتها كى توظفها من أجل خير شعوبها لا من أجل الاقتصادات الاستعمارية. وفك الارتباطات القديمة القائمة على التبعية بين الدول المُستعمرِة والدول المستعمَرة وإحلال علاقات تقوم على التكافؤ ورسم تحالفات جديدة مثلت انقلابا للمسرح العالمى...وفى هذا الإطار نشير إلى مرجعين معتبرين صدرا فى الذكرى الستين لتأميم القناة هما: «دماء ورمال السويس» والمجر وحملة أيزنهاور من أجل السلام ' و«الاستراتيجية البريطانية والمخابرات فى أزمة السويس...كذلك نشير إلى مسلسل «التاج» الذى تناول سيرة الملكة إليزابيث الثانية حيث عرض فى إحدى حلقاته كيف تورط رئيس الوزراء إيدن فى الإعداد لحرب السويس بعيدا عن المؤسسة التشريعية بكذبة وتواطؤ مع فرنسا وإسرائيل، فى محاولة لإنقاذ الإمبراطورية الغاربة دون أى حسابات لما ستترتب عليه حماقة العدوان الثلاثى على مصر وبعد، فإن قناة السويس تؤكد ــ تاريخا وجغرافية ــ آنها تجسيد حى للذات الوطنية المصرية...