العشرون سنة الأولى من القرن الـ21كانت كاشفة لإدراك مدى حدة الأزمة التى تتعرض الليبرالية: القيم والثقافة؛ والديمقراطية... وكنا قد عرضنا فى مقالينا السابقين لأهم المراجعات الغربية فى هذا المقام...ومن الأمانة أن نشير إلى أن هناك مراجعات عربية مثلت مساهمة معتبرة فى هذا السياق مثل التى قدمها الأخ الكبير والصديق العزيز المفكر والباحث الدكتور وحيد عبد المجيد الذى قدم مساهمتين معتبرتين حول الليبرالية والديمقراطية من خلال كتابيه: أولا: الليبرالية: نشأتها وتحولاتها وأزمتها ــ الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015. وثانيا: ديمقراطية القرن الحادى والعشرين.
وتمثل المساهمتان رؤية شاملة من حيث: تصويب بعض المفاهيم والأفكار السائدة حول الليبرالية والديمقراطية وحقيقة العلاقة التى تربطهما. كذلك تتبع المسارات التاريخية لكل منهما وما تعرضا إليه من تحديات من جهة وإلى ما فرطا فيه من ميزات من جهة أخرى...وبالأخير كيف يمكن تجاوز التحديات وعلاج التفريطات لمصلحة تمتع مواطنى القرن الحادى والعشرين بليبرالية وديمقراطية حقيقية.بالنسبة لليبرالية؛يشير الدكتور وحيد أنها تنطلق من أن: حرية الإنسان الفرد ضرورية لكى يعمل وينتج ويتحرك ويفكر ويعبر. وقد اقترنت مقدماتها الفكرية بتطور أوروبا حين كانت هى قلب العالم ومركزه من الزراعة إلى التجارة إلى الصناعة، ومن الريف إلى المدينة،...نعم تزامن بزوغ الليبرالية مع ظهور الرأسمالية ولكن لا يعنى هذا وجود ارتباط عضوى بينهما...فالارتباط الأصيل كان بين الليبرالية والاكتشافات العلمية. فلا علم بغير عقل. ولا منهج علميا دون تفكير عقلاني. ولذلك لم يكن ممكنا أن تبزغ الليبرالية قبل أن تشرق شمس العلم فى سماء ملبدة بغيوم الخرافات والأساطير. ومن ثم أسهمت الاكتشافات العلمية فى تدعيم الليبرالية وأمدتها بالطابع العلمى لأفكارها وفلسفاتها ما مكنها من إخضاع قضايا السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والدين والدنيا لسؤال العقل...
وعليه، فتحت الليبرالية آفاقا بلا حدود للعقل الإنسانى انطلاقا من رباعية التسامح والإبداع/التذوق الفنى والعلم والتنوير...كما ساهمت فى ضبط السوق التى شهدت انتقالا نوعيا من علاقات ذات طبيعة بدائية: تقوم على المقايضة؛ إلى سوق وسياق اقتصادى صناعى مطرد التقدم. وتم هذا الضبط من خلال العقد الاجتماعى الذى وفر: أولا: الاستقلال والاحترام والضمانات والتدخل القانونى للإنسان الفرد فى مجاله الخاص. وثانيا: حماية المجال العام: السياسى والمدنى من اية انتهاكات...ودام ذلك لوقت إلى أن حدثت الخطيئة الكبرى بخيانة الليبرالية لنفسها بمخالفة مبادئها؛ وذلك بتبرير الاستعباد الداخلى والاستعمار الخارجي...عندئذ تحولت الليبرالية التاريخية عن مسارها وأصبح لدينا ليبرالية جديدة أخلت بالعقد الاجتماعى التاريخى فنتجت اللامساواة التاريخية وهنا يكمن مأزق الليبرالية ــ الجديدة ــ فى القرن الـ 21.
وفى هذا الإطار، يطرح الدكتور وحيد عبد المجيد تصورا حول ليبرالية اجتماعية يحكمها الخير العام للمجتمع ومراعاة الحد الأدنى الاجتماعي. والحرية الإيجابية الفعالة...ما يؤمن للمجتمع العقلانية باعتبارها أساسا للتنظيم السياسى والاجتماعى الذى يحقق المقاصد الإنسانية الأساسية. وتحديد العلاقة بين حاجات المواطنين وتفضيلاتهم من جانب والغايات النهائية للمجتمع من جانب آخر. وحسن تنظيم المجتمع على أساس عادل. وتأمين الفضائل السياسية أو المثال الأعلى للمواطن الصالح فى نظام ديمقراطي...ولكن أى ديمقراطية... بالنسبة للديمقراطية؛يتناول المؤلف أزمتها الراهنة التى بلغت مدى غير مسبوق فى السنوات الأخيرة فى سياق أزمة مركبة سياسية واجتماعية ما جعل الديمقراطية التمثيلية تواجه تحديا خطيرا حول صلاحيتها...ذلك بعد أن تزايد الإدراك بانخفاض سقف الديمقراطية التمثيلية. والانفصال بين النخب والجمهور. وفقدان الأحزاب السياسية القدرة على جذب مواطنين جدد إلى الساحة السياسية. وازدياد شعور المواطن بدوره وتأثيره بفضل تقنيات التواصل الرقمية ما أشعره بالاستغناء عن الانخراط السياسي. وازدياد التفاوت الاجتماعى والاقتصادى. وانزلاق الدول الديمقراطية باتجاه نوع من حكم القلة... والمحصلة هو نزوع المواطنين إلى التحرك خارج العملية الديمقراطية المتعارف عليها تاريخيا نتيجة إخفاق نخب وسياسات ومؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية فى تلبية احتياجاتهم. ما أنتج موجة شعبوية جديدة تعكس مدى ما بلغته حدة أزمة الديمقراطية التمثيلية. لذا يشير المؤلف إلى أهمية تحرير الديمقراطية من أن تكون حكرا على اتجاه بعينه أو مرجعية سياسية أو فكرية أو ثقافية دون غيرها. أو نوعا من التنظيم الاقتصادى للمجتمع لا ثانى له. فالديمقراطية لا تكون ليبرالية أو اشتراكية أو قومية، ولا ترتبط بنظام اقتصادى بعينه. فهى ضرورة فى كل السياقات لتأمين الحقوق والحريات السياسية والمدنية وضمان الشراكة المواطنية. إضافة إلى توافر الثقافة الليبرالية بمعناها الاجتماعى الذى يؤمن أوسع فرص للناس للمشاركة فى إدارة الشأن العام ما يرسخ الديمقراطية ويضمن استمراريتها ما يستوجب الأخذ بصيغة تمزج بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة تحت اسم الديمقراطية التشاركية عند البعض والديمقراطية التعاونية لدى البعض الآخر،...،إلخ...وأيا كان المسمى فإن الهدف هو تفعيل الحضور المواطنى بألوانه المختلفة فى شتى دوائر الحركة المجتمعية بما يجعلهم قادرين على التأثير والتغيير.
وبعد، حاولنا أن نجمل رؤية الدكتور وحيد عبد المجيد لكل من ليبرالية وديمقراطية القرن الحادى والعشرين...تحية لهذا الجهد الفكرى والمعرفي/العلمى الكبير.