العالم وأزمة الديمقراطية الليبرالية وتحولات المواطنة

قبل أن ينتهى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أدرك الكثير من الساسة والمفكرين أن هناك عطبا أصاب العملية الديمقراطية فى بلاد المنشأ.

 

ومع حلول العقد الثانى للقرن الحادى والعشرين تضاعفت الأزمة مع ردة فعل المواطنين حيالها التى تجلت فى تحولات جذرية للممارسة المواطنية من حيث المضمون والشكل. فظهرت وتنامت الحركة المواطنية القاعدية الجديدة وذلك فى تجليات حركات احتجاجية ومطالبية وفئوية وقومية وشعبوية، وتأسيس أحزاب جديدة تماما أو أحزاب خارجة من عباءة الأحزاب التقليدية الليبرالية والمحافظة واليسارية والوسطية ــ يمينا ويسارا ــ التاريخية. وبدأت اللحظة التاريخية فى نهاية العقدين الأولين من الألفية الثالثة ــ بحسب أحد الباحثين ــ تسأل أهل الفكر والساسة وتستنطقهم حول أسباب الأزمة التى تتعلق بالعملية الديمقراطية من جهة، ومدى عمق التحولات التى طرأت على الممارسة المواطنية من جهة أخرى...الأمر الذى يستوجب حفرا عميقا لإدراك ما لحق بالبُنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية من تطورات أوصلت العملية الديمقراطية إلى حالة الأزمة من جهة، كما أدت إلى تحولات نوعية فى طبيعة الممارسة المواطنية من جهة أخرى.

انطلاقا مما سبق، تعددت الإبداعات من خلال الدراسات الفكرية والتقديرات السياسية التى صدرت عن أحزاب أو الاتحاد الأوروبى فى محاولة الإجابة عن أسئلة ما الذى أصاب الديمقراطية؟، ما هى وضعيتها بدقة؟ لماذا فشلت الليبرالية؟، هل هى نهاية الديمقراطية التمثيلية؟، كيف نشأت الأشكال الجديدة للتعبير السياسى والمدنى ومدى فعاليتها؟، وما هى قواعدها الاقتصادية والاجتماعية؟، هل يمكن أن تختفى الديمقراطية؟، هل نحن بصدد زمن ديمقراطى جديد؟، هل يمكن تصور المستقبل السياسى للمواطنين بعد الأزمة الديمقراطية؟، أى مواطنة نحن بصددها؟، وما أهم ملامحها؟... فى هذا السياق، نشير إلى 6 مجلدات مرجعية، صدرت مؤخرا ــ حررها عالم الاجتماع السياسى البريطانى الكبير بريان تيرنر (76 عاما)، أظنها تجيب عن كثير من هذه التساؤلات كما تمثل خلاصة لما جاء فى كثير من الاجتهادات نستعرضها كما يلي:أولا: المجلدات الثلاثة الأولى صدرت تحت عنوان: تحول المواطنة؛ ثانيا: المجلدات الثلاثة الثانية حملت العنوان المركب الآتي: شعبوية وديمقراطية فى أزمة؛ وتمثل حصيلة هذه المجلدات الستة مادة معرفية وعلمية غاية فى الدقة والمتعة خاصة أنها لا تتناول أوروبا فقط وإنما تمتد لدراسة حالات متنوعة (جغرافيا وديموجرافيا) لدول تمثل كل القارات تعكس مستويات متدرجة من التطور الديمقراطى.كما تجمع بين التنظير على وقائع وأحداث وحقائق وبين تقديم تفسير عميق للمنطق الداخلى لجوهر هذه النوعية من الأزمات وما يواكبها من تحولات تعتبر تاريخية لأنها تحمل إرهاصات مجتمعية جديدة.

إجمالا، حملت المجلدات الستة أفكارا معتبرة نرصدها في: أولا: درست التداعيات المتشعبة والمتشابكة لتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة التى استمرت لعقود وكيف أثرت فى تآكل حقوق المواطنة. وذلك من خلال رصد كيف انحازت التشريعات والسياسات لمصلحة القلة الثروية على حساب الأغلبية من المواطنين من جانب. ولمصلحة الرأسمالية المعولمة على حساب الرأسماليات الوطنية والمحلية من جانب آخر. ما أدى إلى إضعاف دولة الرفاة فى أوروبا والخيار التنموى بتطبيقاته المختلفة فى عالم الجنوب. ما أدى إلى تفاقم التفاوتات الحادة بين الطبقات المتوسطة والدنيا من جانب والطبقة العليا من المجتمع. ثانيا: كيف أصبحت الديمقراطية التمثيلية مع مرور الوقت لا تعكس تمثيلا سياسيا حقيقيا لطبقات المجتمع المختلفة. ثالثا: تنامى ظاهرة الاستبعاد المجتمعى وإضعاف المشاركة المجتمعية من خلال دوائر الحركة المتعارف عليها السياسة والمدنية والاجتماعية والثقافية. ما ضغط على الممارسات المواطنية الطبيعية وانتظامها من خلال الأحزاب والنقابات وغيرها من أشكال تنظيم تاريخية وتقليدية أصابها الوهن والعجز عن الاستمرار فى أداء أدوارها ما فتح الباب أمام أشكال ومضامين تعبير سياسية جديدة. وفى هذا الإطار تم رصد النماذج النضالية المختلفة التى مارستها الحركات المواطنية الجديدة فى عديد الدول وأثرها وما يمكن أن يترتب عليها من تأسيس جديد. رابعا: تمت دراسة الشعبوية المتمددة الراهنة وأنها شعبوية ذات قاعدة مواطنية عريضة ومتنوعة التوجهات والاتجاهات التى قد تكون متناقضة. إلا أنه وبالرغم من التناقض إلا أن ما جمعها هو مواجهة ما حل بالعملية الديمقراطية من ارتباكات واختلالات. خامسا: إن ما جمع بين هذه الاتجاهات الرفض للمؤسسات القائمة، والسياسات المُطبقة، وللنخب السياسية والاقتصادية المهيمنة على المشهد الاقتصادى والسياسى لعقود خاصة تلك التى تتناوب الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أو ما عُرف بالتصدع التاريخى لتحالف يسار الوسط الذى لعب دورا أساسيا فى تمرير الكثير من التشريعات والسياسات التى ضاعفت من التفاوتات على مدى أكثر من نصف قرن. سادسا: أسهم التقدم المطرد لتقنيات التواصل الرقمى من تنامى القدرة على تنظيم الحركات المواطنية الجديدة أو الشعبوية المتجددة المختلفة جذريا عن الشعبويات التاريخية...

ويبقى السؤال هل ستتجاوز العملية الديمقراطية أزمتها وإلى أين سوف تأخذنا المواطنة بتحولاتها الجديدة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern