نحن وهم

نحن وهم, تنويعة على لحن دأب العقل الأمريكى المحافظ على تأكيده فى الدراسات التى تعرف بالاستشراقية (المناطقية فى تعبير آخر) المعنية بالشرق, والتى تزايدت بشكل ملحوظ بعد الحادى عشر من سبتمبر. ويعتبر برنارد لويس (92سنة) أحد أهم رموز هذه الدراسات, ما جعله يلقب “بإمام المستشرقين”, قد بدا هذا التوجه فى كتاباته المبكرة منذ الخمسينيات. ويعد لويس أول من صك الأفكار الخاصة بصدام الأديان والثقافات, وبوضع المسافة الحاسمة بين الغرب والشرق من خلال كتبه.

ولعل دراسته الشهيرة المعنونة “الغرب والشرق الأوسط” ونشرت فى منتصف التسعينيات, وقمنا بترجمتها آنذاك, وهى الدراسة التى تعد أساس كتابه “أين الخطأ؟ (صدر بعد 11/9), تعد منطلقا لدراسات عدة انطلقت فى هذا المسار والتى تخلص إلى أمرين:

الأول “التباين المطلق”.. والثانى “السجال التاريخى” بين الشرق والغرب. إنها نفس الفكرة التى نجح فى بلورتها هانتينجتون فى مقولته عن الحدود الدموية بين الحضارات لاحقا وتأكيد فكرة” فى منتصف التسعينيات من خلال دراسته الشهيرة “صدام الحضارات” والتى نشرت, أيضا, فى مجلة فورين أفيرز الأمريكية والتى قام بتطويرها إلى الكتاب المعروف باسمه لاحقا الغرب والآخرون فى هذا السياق نشرت مجلة فورين أفورز هذا الشهر (عدد مارس/أبريل 2008) التى تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية دراسة مهمة بعنوان “نحن وهم: القوة الممتدة والباقية للقومية العرقية”, لجيرى موللر أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية فى أمريكا, ومؤلف كتاب العقل والسوق: الرأسمالية فى الفكر الأوروبى الحديث. تأتى أهمية هذه الدراسة من أنها تحاول الترويج إلى أن تفكيك الأوطان هو الحل الأمثل لإشكالية التنوع القومى والعرقى.

ويؤسس الباحث دراسته على أن وحدة أى أمة تقوم على عدة عناصر منها: التراث والإيمان المشترك واللغة الواحدة والانتساب إلى أصل عرقى واحد, وهو ما يعرف بالقومية العرقية. وتنتفى وحدة الأمة إذا كان هناك من يعيش فى نفس النطاق الجغرافى, ولكنه ينتمى إلى عرق آخر ويتحدث لغة أخرى ويدين بإيمان مختلف. وعلى الرغم من رصده أن الخبرة الأمريكية قد استطاعت أن توحد بين مكوناتها المتعددة بغض النظر عن اختلافهم فى الأوصول العرقية والدينية والقومية, وهو ما يعرف بالقومية الليبرالية – المدنية حيث يمكن أن تتأسس وحدة سياسية قادرة على الدمج بين المتنوعين, بيد أنه يستبعد إمكانية تحقق ذلك بالنسبة للآخرين ومن ثم عليهم الأخذ بالتفكيك أو بالقومية العرقية أى أن تسعى كل قومية عرقية لبناء وحدتها السياسية.. ولم يفسر لماذانجحت أمريكا فى ذلك ولماذا لا تنجح حالات أخرى بالتالى.. ولعل هذا ما يفسر عنوان الدراسة. ” نحن وهم” فى دمج مواطنيها من ذوى الأصول المختلفة يستحيل تكرارها, ومن ثم فعلى الآخرين, أو “هم”, أن يسلكوا طريقا مغايرا فى إتجاه القومية العرقية.


ويجتهد الباحث على مدى صفحات الدراسة, فى تأكيد هذه الفكرة, ولأن الفكرة سياسية فى المقام الأول, يستطيع القارئ أن يلمح بسهولة ويسر كيف أن الباحث يكتب وعينه على كثير من البلدان التى من مصلحة أمريكا أن تتعامل معها على أسس عرقية, لذا يخلص إلى القول بأن “التجزئة”, ربما تكون هى الحل الإنسانى الأخير لمثل هذه الصراعات المجتمعية الحادة.


وفى سبيل الوصول إلى حل “التجزئة”, يهمل الباحث, من جانب, الحديث تماما عن التجربة الأمريكية فيما عدا العبارة التى أوردناها – سالفا – حول نجاح أمريكا فى دمج مواطنيها, وهى فيما أعلم محل جدل علمى كبير, بل هناك دراسات حول الهوية الأمريكية تعيد تصنيف ساكنى أمريكا على أساس الأصول العرقية المنحدرين منها, ويمكن الرجوع إلى كتاب هنتينجتون “من نحن”. ومن جانب ثان, نجد الباحث يحشد الكثير من المقتطفات من الذين اجتهدوا فى مجال تكون الدول ونشأة القوميات, وهنا نجد كيف يستعيد التجربة الأوروبية, وعلى الرغم من أنه يجرى رصدا من الدول الأوروبية وتحقق المساواة الاجتماعية والثقافية فيها, فأنه لايقول لنا ما الذى يمنع أن يحدث ذلك فى خارج هذا السياق. وفى نفس الوقت نجده يرصد كيف استطاعت بعض الدول الأوروبية وتحقق المساواة الاجتماعية والثقافية فيها. فأنه لايقول لنا ما الذى يمنع أن يحدث ذلك فى تحقق الوحدة بسبب الوحدة القومية مثل أسبانيا وإيطاليا, وعند الحديث عن دول البلقان نجده يشير إلى أن تأخر تبلور الوعى القومى كان سائدا بسبب التنوع القومى, ولكنها لم تلبث أن تحقق الاستقلال القومى قبل أن تعرف الحداثة.


ويصبح السؤال المنطقى لماذا لايكون مصير الدول التى تعانى التوترات هو الوحدة متى عرفت الحداثة. أيضا لماذا إذا قبلنا المنهج الذى إتبعه فى محاولة تفسير التجربة الأوروبية من خلال التصنيف الجغرافى ألا يتم تبنى هذا المنهج خارج هذا السياق, بلغة أخرى لماذا التعميم على منطقة بأسرها مثل منطقتنا بضرورة التجزئة,, والإيحاء بأن كل دول المنطقة ذات تطور واحد, وكأن التطور التاريخى هو- محض – ميكانيكى, وكأن المراحل التاريخية تبدأ وتنتهى بقرارات سياسية, حيث لا يؤخذ فى الحسبان الجهود الذاتية الوطنية من أجل التقدم مهما كانت ضعيفة أو كثيرة الانتكاسات. ويصف إدوارد سعيد هذه النوعية من الأبحاث بأنها أقرب إلى “البيئة السياسية أكثرمن البيئة الفكرية الصرفة”, لذا نجد الباحث الأمريكى, عند حديثه عن المجتمعات التى تعانى التوتر, يناشد “المجتمع الدولى بالفصل بين مكوناتها”, من خلال “المعونات.. وضمان الحقوق”.. أو إيجاد ما يمكن تسميته “بالروابط العابرة للحدود”.. بيد أن هذا لا يمنع من القول أن هذه النوعية من الدراسات يكون لها حظ وفير من الزواج وربما التحقق..

ذلك بسبب عدم بلوغ الاندماج بين المختلفين فى إطار النطاق الجغرافى الواحد بسبب الإخفاق فى الداخل على تهيئة فرصة هذا الإندماج على قاعدة المواطنة التى تضمن المساواة بين الجميع دون تمييز, الأمر الذى يعنى تبلور دولة حديثة بكل ما تعنى الكلمة من معنى.. وهنا تكمن الإشكالية الجديرة بالنقاش.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern