القرن 21 .. مراجعات وتحولات

أنهت البشرية القرن العشرين متصورة أنهاحظيت بإجابات نهائية لكل ما يتعلق بحياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية...إلا أنه وبحلول منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة تأكد للجميع أن هناك الكثير مما لم تتم الإجابة عنه سياسيا واقتصاديا وفكريا واجتماعيا...ما دفع، الكتل الجماهيرية بالتحرك فى كل مكان من العالم،الشمال الغنى والجنوب النامى،أو دول المركز والدول التابعة، أو الغرب والشرق، أيا كان المسمى...الأمر الذى جعل من العقدين الأول والثانى من القرن الحادى والعشرين ــ وبامتياز ــ عقدى المراجعات والتحولات...كيف؟...

 

تبدأ القصة، عندما ظن العالم أنه مع انطلاق الأحداث الدرامية نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، فى كل من بولندا وأوروبا الشرقية والتى انتهت بتفكيك الاتحاد السوفيتى بأن هذا يعنى انتصارا نهائيا للمعسكر الغربى بنظامه السياسى ومرجعيته الفكرية وخياره الاقتصادى. وتعددت الأطروحات التى تدلل على ماسبق بقيادة أسماء معتبرة مثل:هانتيجتون الذى اعتبر التسعينيات زمن الموجة الثالثة من الديمقراطية.وفوكوياما الذى اعتبر الديمقراطية الليبرالية: منتهى التطور الأيديولوجى للإنسانية ونهاية التاريخ. واجتهد كثير من المفكرين والاقتصاديين على الربط بين هذا الانتصار وبين خيار اقتصاد السوق والخصخصة من جهة، والتحديث من جهة أخرى...

ولكن بنهاية العقد الأخير من القرن العشرين تبين عمليا ومن خلال الممارسة أن النموذج المُنتصر يحمل الكثير من التناقضات, بحسب إيزنشتات، ما استدعى أن يقوم الكثيرون بمراجعة هذا النموذج ــ ليس فقط من نقاده ــ بل من دعاته...فلم تمر ثلاث سنوات حتى وجدنا ثلة من دعاة النموذج المنتصر يقومون بمراجعة نموذجهم مثل: الباحث الأكاديمى والإعلامى الأمريكى (من أصل هندي) الأشهر فريد زكريا (57 عاما) يصدر كتابا بعنوان: مستقبل الحرية: الديمقراطية غير الليبرالية فى الوطن والخارج. والأكاديمى الأمريكى (من أصل ياباني) فرانسيس فوكوياما(69 عاما) صاحب مؤلف نهاية التاريخ، يراجع نفسه فى دراسة نهاية الريجانية.. حيث أعلن كارثية السياسات النيوليبرالية التى حالت دون تحقيق تساقط الثمار وتحقيق الازدهار الاقتصادى والمعيشى الموعود لعقود. وفى نفس الوقت، كشفت عن عجز الديمقراطية من حماية المواطنين من الرأسمالية الجائرة. ثم عالم الاجتماع السياسى لارى دايموند الذى حرر مجلدا بعنوان: الديمقراطية: أبحاث مختارة, عن أسباب تراجع الديمقراطية ــ ليس فقط فى الدول حديثة العهد بها أو دول الموجة الثالثة ــ وإنما فى كل العالم بما فيه دول نهاية التاريخ أو دول المعسكر الرأسمالى ذات التاريخ الديمقراطى العريق. ويعد المجلد نموذجا مثاليا لتنوع الدراسات وعمق تشخيص ما لحق بالديمقراطية من وهن ولماذا، بأقلام 25 مفكرا وباحثا ــ إضافة لدايموند ــ مثل: ليبهارت، وشميتر، وبوتنام، وبلاتنر.

ومع زلزال الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية فى 2008، رأينا مراجعات اقتصادية، مهولة، مست جوهر الخيار النيوليبرالى الذى ساد العالم منذ 1979. ونشير هنا إلى الكتابات النقدية لما أسميهم اقتصاديى نوبل مثل: أمارتياسِن (1998)، ستيجليتز (2001)، وكروجمان(2008)،. ولا يمكننا أن ننسى فى هذا المقام توماس بيكيتى الذى كشفت مجلداته...إضافة لرجال أعمال وصناعيين مثل: كلاوس شواب رئيس منتدى دافوس، وجورج سوروس، وغيرهما...وكلها توافقت على نتيجتين مأساويتين تحققتا بسبب النظام الاقتصادى العالمى الجائر هما: التفاوتات واللامساواة الحادة بين البشر... لم تتوقف المراجعات على تحليل واقع العمليتين السياسية والاقتصادية بل امتد إلى المرجعية الفكرية والتاريخية التى شرعنت هاتين العمليتين ومكنتهما من الاستمرار وتحقيق نجاح جزئى لم يستطع أن يخفى المساوئ التى باتت مزمنة وأوجه الخلل الفادحة ما أدى إلى الفشل بحسب أستاذ العلوم السياسية الأمريكى باتريك دينى فى كتابه المرجعى: لماذا فشلت الليبرالية؟ (2018)...

وبالطبع، لست فى حاجة إلى التذكير إلى الكم الهائل للمراجعات التى أجريت مبكرا من قبل التيارات النقدية من الأصل للنموذج المنتصر وكانت تتسم برؤيوية لافتة لعل من أهمها ما كتبه الباحث والسياسى والدبلوماسى الفرنسى المعروف دوليا جان مارى جيهينو(72 عاما) فى كتابه: نهاية الديمقراطية؛ حيث تنبأ بأن الديمقراطية التاريخية إلى زوال فى ظل الرأسمالية الاحتكارية المالية المعولمة التى سيفرض على العالم عبادتها ــ تجاوزا ــ باعتبارها العجل الذهبى للإمبراطورية المالية. ذلك لأن الطبيعة الاحتكارية للنظام الاقتصادى سوف تمارس استبدادا لمصلحة القلة الثروية سيعوق الديمقراطية التاريخية من فتح المجال أمام المشاركة المواطنية لممارسة أدوارها التخطيطية والرقابية والمحاسبية والتصويبية التى تضمن التقدم والعدالة للجميع دون استثناء...وحول هذه الفكرة استفاض شارحا أستاذ الاقتصاد الأمريكى فى جامعة ماساتشوستس ريتشارد وولف فى كتابه: الديمقراطية فى حالة تشغيل شفاء للرأسمالية...

والنتيجة أن كثيرين لم يدركوا أن تعطيل الديمقراطية سوف يؤدى إلى: كراهيتها؛ إذا ما استعرنا تعبير الفيلسوف الفرنسى جان رانسيير(81 عاما)، فقط، وإنما إلى وقوع: تناقضات مدمرة؛ بحسب الموسوعى العبقرى ديفيد هارفى (86 عاما)، فى بنى المجتمع المختلفة من: طبقات وتشكيلات اجتماعية مختلفة، وهياكل مؤسسية نوعية وفئوية متنوعة...ما سيؤدى إلى تحولات تاريخية كبرى...نفصلها تباعا.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern