الذات الإنسانية فى زمن «السيلفى»

صار التقاط صور سيلفى فعلا أساسيا حاضرا فى كل لحظة من لحظات الحياة اليومية...فلقد أصبحت لقطة سيلفى قرينة لكل خطوة يخطوها الإنسان فى كل مجالات نشاطه اليومي...وتشير الأرقام إلى أنه فى نهاية 2018 تم رصد مليار وثلاثمائة انسان على ظهر الكوكب يحرصون على أخذ صور سيلفى لكل النشاطات التى ينخرطون فيها...

 

لم يعد سيلفى حكرا على نجوم الاقتصاد والسياسة والفن والإعلام والرياضة فقط وإنما ممارسة متاحة لجميع المواطنين على اختلاف مواقعهم وأدوارهم الاجتماعية. ولا يقف الأمر عند حد الفرصة المتاحة للجميع فى ممارسة التقاط صور السيلفى وإنما أصبح يتجاوزها إلى أن غير المشهورين يمكنهم ان يصبحوا نجوما معروفين كونيا فى ثوانٍ معدودة ــ بحسب مقال فى جريدة لوموند الفرنسية ــ وذلك من خلال لقطة غير نمطية يتم تداولها بواسطة التقنيات الرقمية الذكية. وهكذا تتحقق شهرة عابرة للقارات لأشخاص بسطاء. وبالأخير يتساوى الجميع فى جعل ذواتهم حاضرة عبر عديد الشبكات الاجتماعية المحلية والعالمية بكيف وكم مطلق لا حدود له.

استوقفت هذه الظاهرة، خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، الكثيرين لتأملها ومحاولة فهمها وإدراك دلالاتها...ذلك لأنهم وجدوا فيها أنها تحمل الكثير من المعانى والدلالات تتجاوز ظاهرها التقني...كيف؟

أولا: سيلفى تمنح الإنسان القدرة على تصوير عالمه كيفما شاء؛وفى هذا يقول أحدهم: تكمن قوة السيلفي، دون شك، فى كونه يعطينا الانطباع أن الصورة ملك لنا، ونحن من يتحكم بها. ونضيف على القول السابق، بأن السيلفي، أيضا، يحدد أصحابها تفاصيلها، وهل تكون رسمية أو تلقائية، وأى انطباع يريدون تركه فى عيون الناظرين حول العالم الذى ننتمى إليه بتناقضاته المختلفة...وتعلق إحدى الباحثات على ما سبق بقولها «نقتطف بتصرف»: إن الرسالة التى يريد صاحب صورة السيلفى أن يبعثها مفادها هو إنه أنا من ترونه فى الصورة، فلا تحاولوا النظر إلى بطريقة أخرى غير الصورة التى أعرضها عليكم. وهذا أمر يعبر عن سلطة كبيرة مضمونها أن ملتقط السيلفى يتحكم فى عالمه كما يتحكم فى صورته. «راجع كتاب أنا وسيلفى إذن أنا موجود».

ثانيا:سيلفى عملية تجسيد لذاتية الإنسان بحرية تامة؛لقد عاش الإنسان على مدى التاريخ أسيرا ــ بدرجات ــ لمكانته الاجتماعية وموقعه الطبقى وقدراته الإبداعية. فبحسبهم «المكانة والطبقة والإبداع» تحدد طبيعة الصورة التى عليه أن يظهر بها بداية ومتى وأين. على النقيض تماما فتحت التقنيات الرقمية الذكية مسارات متعددة ومتشعبة لكسر كل أطر الأسر الإنسانى المتعارف عليها تاريخيا. ما نتج عنه تحولا نوعيا لقدرة المرء على أن يعبر عن ذاته خارج الإطار التقليدى الوظيفى المحدد سلفا، وفق أطر الأسر المختلفة، إلى إنسان يعبر عن ذاتيته بأريحية تامة وفق اللحظة وسياقها.

ثالثا:سيلفى عملية اكتساب للشرعية وتحقيق للذات وأكثر؛ فبقدر ما يحظى أصحاب السيلفى بعلامات الإعجاب، والتعليقات، والمشاركة من آخرين على لقطاتهم المتتالية، التى باتت لا تعد ولا تحصى، بقدر ما يشعرون بتحقيق للذات من جانب وبشرعية وجودهم الإنسانى من جانب آخر. فلقد تمكن هؤلاء السيلفيون، إن جاز التعبير، من أن ينالوا اعترافا بعوالمهم، وتقديرا بإنجازاتهم ــ التى قد تكون بسيطة ــ خارج الحدود التقليدية المانحة للاعتراف والإنجاز...فمع كل صورة سيلفى لا يحقق المرء ذاته فقط، وإنما أكثر من ذلك ــ تتجدد الذات الإنسانية من خلال شبكات الإعجاب والتواصل والمشاركة المتغيرة والمتبدلة...ما يعنى أننا أمام عملية بناء دائمة لجوهر الإنسان، بحسب ماركس، تتسم باكتساب الوعى وقدرة الفعل وتمكنه مع مرور الوقت على الإبداع والاختلاف والمغايرة.«يمكن مراجعة كتاب من الذات إلى السيلفى الذاتية المصورة ــ نقد أشكال الاغتراب المعاصرة ــ 2019».

رابعا: سيلفى تعبير عن حب الحياة؛تقول إلزا جودار فى كتابها: أنا وسيلفى إذن أنا موجود الصادر فى 2016 ترجمة سعيد بنكراد فى 2019؛ إن التقاط السيلفى بطريقة عفوية معناه اللعب مع صورة للذات، ثم نشرها لكى يتسلى بها مجموعة من الأصدقاء أو يستمتعون بها، أو هو الرغبة فى اقتناص لحظة مع الأصدقاء أو وسط العائلة ووضعها فى صورة ثم نشرها لكى يتقاسم الجميع هذه اللحظة السعيدة...إنه تعبير عن الحياة فى كل جوانب الطيش فيها،...من خلال فعل بسيط ولعبي، عن إعادة الاتصال مع قيم المتعة والمشاركة...بهذا المعنى تصبح هذه اللحظة التى يتم اقتناصها من خلال الصورة السيلفى فى تقديرنا ــ لحظة تجمع بين فكرة: الانهمام بالذات، التى انشغل بها الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو«1926 ــ 1984» إلى الشراكة مع الآخرين...إنها لحظة مركبة تعكس حبا للحياة من خلال لقطة لحظية غير مألوفة تسعدنا نندفع من خلالها لأن نعيد من خلالها الروابط بيننا وبين الآخرين...تلك الروابط التى تقطعت بفعل المجتمع الاستهلاكى السوقى كما فصل عالم الاجتماع البولندى زيجمونت باومان «1925 ــ 2017» فى كتابه حياة بلا روابط...

إن الذات الإنسانية فى زمن سيلفى تختلف كليا عنها فى زمن مجتمع الفرجة والاستعراض ــ حسب جى ديبور ــ فالأخيرة تشكل صورا تجميلية لعالم غير قادر على استيعاب الجميع بينما الأولى تتيح للجميع أن يقدموا صورا حقيقية تتجلى فى كل لحظة على مدى اليوم فى شتى أنحاء العالم: شماله وجنوبه؛ حيث تتجاوز الكاميرا أو الأجهزة الرقمية الذكية وظيفتها التقنية المباشرة لتكون التجلى الحقيقى لأوضاع الإنسان/المواطن فى كل مكان وفى نفس الوقت كونها الصوت المرئى الذى يتحدث عن الجموع/الجماهير/المواطنين فى زمن السيلفي.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern