فى الوقت الذى سببت فيه الجائحة الفيروسية أضرارا كبيرة على حياة البشرية: اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا وذهنيا؛ فى السنتين الأخريين…إلا أن هذا لم يمنع من استنفار العقل الإنسانى فى عديد الحقول المعرفية فى محاولة لفهم ودراسة تداعيات الجائحة ومن ثم إيجاد الحلول الناجعة للعبور بالبشرية من النفق المظلم الذى أدخلتنا فيه...
فمثلما انطلقت المعامل الفيرولوجية تتسابق ــ وتتنافس ــ من أجل إيجاد اللقاح المقاوم لكوفيد 19 كخطوة أولى، من المفترض أن تعقبها أخرى تدعم جهاز المناعة الإنسانى للحيلولة دون الإصابة بالفيروس من الأصل. هكذا أيضا انتعشت الحقول المعرفية المختلفة لدراسة ما سببته سنوات الغلق من: قلق، وخوف، واضطراب، ووحدة بسبب التباعد الجسمى والاجتماعى، واختلال القيم، وارتباك المفاهيم والمعانى، واليأس من سرعة العودة إلى الحياة الطبيعية مرة أخرى، والغيابات القسرية لمن نحبهم،...،إلخ...ومن ضمن هذه الحقول: علم النفس والصحة النفسية...
فلقد سببت الجائحة حالة من الهلع الكونى خاصة فى المرحلة الأولى من انتشار المرض. فيكفى أن نشير إلى أنه مع مطلع يونيو 2020، أى قبل سنة وبعد انتشار الموجة الأولى من الجائحة بشهرين، أصيب 4 ملايين مواطن من مواطنى العالم بفيروس الكورونا المستجد، وغيب الموت 250 ألفا من المواطنين فى شتى أنحاء الكوكب. إضافة إلى تقييد حركة ــ ربما ــ أكثر من ثلثى الكتلة السكانية بدرجات متنوعة...جرى كل ذلك دون توافر إجابة واضحة حول طبيعة ما جرى وكيف يمكن مواجهته وبالتالى ما هو المدى الزمنى المتوقع أن تنتهى فيه الغُمة التاريخية التى لحقت بالإنسانية فى كل مكان دون استثناء...ومن ثم أصيب الجميع بالهلع الذى أخذ فى التنامى مع انتشار كثير من الشائعات التى كرست حالة من التوجس من كل ما يحيط بالإنسان/المواطن فى حياته اليومية لاحتمالية انتقال الفيروس إليهم. ما أصاب الحياة، لوقت، بالشلل التام...وهكذا، تفاقم غياب الروابط التى تربط العائلة الإنسانية/الجماعة المواطنية...الغياب الذى بدأ مع مجتمع الاستهلاك وتنامى مع تقنيات التواصل الرقمية وتضاعف مع الحجر الفيروسى فى زمن العزلة...فاستحقت الحياة التى نعيشها الوصف الذى وصفها به عالم الاجتماع البولندى المعاصر زيجمونت باومان (1925 ـ 2017) بأنها باتت: حياة بلا روابط ؛ حيث: يبحث الخوف «الذى امتلك البشر» الواضح، أو حتى المُضمر، من المجهول بيأس عن منافذ ذات مصداقية. ينزع نحو قلق يتراكم، وشعور لا سقف له من غموض المخاطر والتهديدات،...الأمر الذى أثر على النفس البشرية وسبب لها أضرارا بالغة...
وأذكر فى هذا المقام، ما ورد فى كتاب صدر فى بدايات أزمة الكورونا وقرأته مطلع 2020عنوانه «لأنَّ الإنسانَ فانٍ » الطب وماله قيمة فى نهاية المطاف؛ لأحد الباحثين العلميين يشير إلى رواية تولستوي(1828 ــ 1910) الخالدة: موت إيفان إيليتش والتى تسرد معاناة البطل، الذى يبلغ عمره الـ ٤٥ سنة، مع المرض والذى كان يعمل قاضيا فى مدينة سان بيترسبرج. وكيف أنه مع مرور الوقت كانت حالته تتدهور إلا أنه لم يجد المردود الطبى المناسب لما يعانيه من تدهور. وعن هذا يقول تولستوى: الذى كان يؤلم إيليتش أشد الألم هو ما يصادفه من خداع، والكذبة التى بدا أن الجميع يقبلونها لسبب أو آخر بأنه ليس فى طريقه إلى موت قريب، بل هو مريض فقط، وأن كل ما عليه فعله أن يصبر ويخضع...إلا أن الحالة لم تكن تتحسن...وفى قراءة معاصرة للعمل الأدبى نجدها ترصد ما يلى: أولا: غياب العطف المطلوب القادر على استيعاب المعاناة الشديدة والخوف المزمن. ثانيا: بالرغم من التقدم الطبى والعلمى النسبى فإن التقدم التقنى لم يستطع أن يفى المريض ــ كإنسان ــ الطمأنة المطلوبة. ثالثا: أن تضاعف المعرفة الطبية والعلمية وتجدد اكتشافاتها وممارساتها وتقنياتها يمكن أن تكون جاهلة عن تقديم الترياق الصحيح والحاسم لعلاج الإنسان/المواطن...
إن الجائحة الفيروسية، حلت، لتُفاقم من هشاشة الواقع الإنسانى المعاصر الذى عرف الهشاشة،بداية، بفعل اختلالات الليبرالية الجديدة الجائرة...هشاشة ولدت مركبا ثلاثيا للسلوك الإنسانى يتكون من: الهلع والجهل والعجز كانت كافية لضرب إنسان/مواطن ما بعد جوجل القابض على كل شيء ــ أو الذى كان يظن ذلك ــ فى مقتل، سواء فى دول الشمال أو دول الجنوب...
فى هذا السياق، كثرت خلال الأشهر الماضية كثرة من الأعمال التى تتعاطى مع النفس البشرية فى زمن الجائحة لتأمين التعافى الشافى لمركب الهلع والجهل والعجز الذى أصاب السلوك الإنسانى وتجلى فى: الفقدان المفاجئ للقريبين، التباعد الجسدى والاجتماعى، التواصل الإنسانى، تداعيات العزلة/الحجر من عدم القدرة على ملء الوقت بشكل صحيح والملل والزهق والنمطية والاكتئاب، وعدم الاستعداد النفسى والمهارى للعمل فى المنزل عبر تقنيات التواصل الرقمى، أو الاضطرار للخروج للعمل وتحمل عبء نفسى ثقيل من احتمال الإصابة بالفيروس، الإصابة «بفوبيات» متعددة منها: رهاب الخوف من الموت، ورهاب الوحدة، ورهاب التهديد، ورهاب القلق، ورهاب فقدان الأمان بأبعاده الاقتصادية والصحية والعاطفية، والاحتمالية المتزايدة للإصابة باضطرابات بدنية ونفسية وعقلية،
فبغرض التعافى الآمن الذى يتجنب سلبيات النموذج الذى قدمه لنا تولستوى نرى رؤية تؤسس لسياسات العناية فى زمن الكوفيد 19. كما هناك رؤى تناقش إشكاليات نفسية بعينها مثل إشكالية التوحد وكيفية التعامل معها فى ظل وما بعد الوباء. كما هناك رؤى تقارب الكوفيد 19 من منظور علم النفس أو ما بات يُعرف بعلم نفس الجائحة/الجوائح وأظنه يمثل إضافة جديدة تستحق أن نفصلها لاحقا مع رؤى أخرى...ذلك لأنها تحاول أن تفسر طبيعة الصدمة/الصدمات النفسية «Trauma»؛ التى حلت بالبشر بفعل الجائحة...