القدس تؤسس لمسار جديد

القدس مرتقانا إلى السماء، نحن مولودون منها بالروح، ونحن شاخصون إليها بالحب، ونحن فيها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، سلام للقدس، سلام على القدس، وسلام القدس لكل العالم.. هذه الكلمات جاءت فى نهاية البيان الختامى لمؤتمر مسلمون ومسيحيون معا من أجل القدس؛ قبل ربع قرن، الذى التئم تحت مظلة مجلس كنائس الشرق الأوسط بالشراكة مع الفريق العربى للحوار، ببيروت فى شهر يونيو عام 1996. وهو المؤتمر الذى استمر لثلاثة أيام بحضور 15مرجعية دينية مسيحية وإسلامية عربية، وتمثيل لمؤسسات عربية وأوروبية وأمريكية دينية ومدنية: بحثية وإعلامية مثل: آل البيت، وجامعة الدول العربية، والفاتيكان، ومجلس كنائس أمريكا. لم يكن المؤتمر تظاهرة عابرة بل كان حشدا جديا جمع بين كوكبة من المرجعيات الدينية والمثقفين المعتبرين والسياسيين النافذين من المنطقة وخارجها حيث تدارسوا المسألة المقدسية باعتبارها أم القضايا. وتأتى أهمية المؤتمر من أنه قارب قيمتها وقامتها: تاريخيا، ودينيا، وسياسيا، وما يستدعيه ذلك من ضرورة العمل على توحيد الموقف العربى والدولى منها، وحذروا من محنتها وآلامها وما يترتب على ما سبق من تداعيات تدميرية. ذلك أن اختطافها القسرى المنفرد دون اعتراف بحقوق الآخرين يعنى الدفع بالمنطقة نحو التفجير لا محالة.لقد كان اللقاء محاولة لعبور الحواجز بين الدين والسياسة والفكر والثقافة من جانب كذلك بين ما هو رسمى وشعبى من جانب ثانٍ ورؤى المنطقة وخارجها من جانب ثالث بما يستجيب لتطلعات الشعوب والدول والمؤسسات للحرية والعدالة والاستقلال...

 

وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة بعد أوسلو، قد تم التغافل عن منح القدس ما تستحقه من اهتمام فى ملف الصراع الذى ساد المنطقة منذ النكبة الأولى. فالقدس التى سُميت بأم المدن؛ ليست مكانا وحجرا، إنها تاريخ حى بنفحة إلهية. وهى الباب لأى حل عادل...فلا يمكن تهويدها بالمطلق كما جاء فى مشروع القانون الذى قدمه السيناتور دول عام 1995 الذى جاء فى حيثياته وديباجته ما نصه(والترجمة لنا): مدينة القدس هى المركز الروحى لليهودية، كما أنها تعد مدينة مقدسة من قبل الأعضاء المنتمين لمعتقدات أخرى...وهو تشريع خطير حذرنا منه مبكرا ــ وأكثر من مرة ــ لأكثر من سبب وذلك كما يلي: أولا: ذكر اليهودية دون غيرها من الأديان وكأن القدس لا توجد بها مقدسات مسيحية وإسلامية، حيث خص التشريع الأمريكى اليهودية دون غيرها، فبينما القدس هى المركز الروحى لليهودية فإنها مجرد مدينة مقدسة للمعتقدات الدينية الأخرى، وثانيا: عدم تسمية الأديان الأخرى ووصفها بالمعتقدات الدينية الأخرى، ثالثا: إضفاء الطبيعة الدينية على قرار سياسي، ثالثا: منح المشروعية لليهودية فى الحق الكامل فى القدس، ولليهود بطبيعة الحال، فيصبح أبناء المعتقدات الأخرى وكأنهم ضيوف على المدينة..

لقد وفر هذا التشريع الارتباط الشرطى بين اليهودية الدين المُعرف والقدس، ما يضمن، ليس فقط، الحق القانونى والوجود الفيزيقى لليهود بالنسبة للقدس، وإنما يجعلها، حصرا، المرجعية الروحية لهم. وبدرجات أقل ــ كثيرا ــ مقدسة للآخرين غير المُعرفين...فتصبح القدس بالنسبة لغير اليهود مزارا على أحسن تقدير... وظنى أن هذا التشريع السياسى الأمريكى المُبكر ــ الذى تلفح بمشروعية دينية لخدمة فئة بعينها دون غيرها، قد أوحى بمسار ــ إضافة لمسارات أخرى ــ يمكن استنساخه فى شتى ملفات الصراع وهو ما تجلى ــ بامتياز ــ فى الزمن الترامبى من خلال تسوية أمريكية منحازة محافظة ودينية متشددة بدأ بقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. القرار الذى تجنبت اتخاذه الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ كلينتون حتى أوباما مرورا ببوش الابن. ما صب، فى النهاية، لصالح المحافظين والقوميين المتشددين والدينيين المتعصبين فى الداخل الإسرائيلى دون غيرهم ــ ما تجلى فى خيار غاشم وغشيم بدأ تنفيذه ووصل إلى ذروته فى القدس الأيام الأخيرة وأوصلنا إلى ما نحن فيه.

ولعل من أهم ما كشفته المقاومة الشعبية/الشبابية الفلسطينية التى انطلقت من قلب وعتبات زهرة المدائن وامتدت ــ ليس فى غزة فقط ــ وإنما إلى كل الأراضى الفلسطينية وعرب الداخل الإسرائيلى ما يلي: أولا: إن التهويد القسرى الذى يضرب بعرض الحائط القوانين الدولية، والقرارات الدولية، والمواثيق والمعاهدات والتعهدات الدولية، والقيم الدينية والأعراف الإنسانية لا ولن يضمن حلا عادلا للقضية الفلسطينية. ثانيا: إن هناك مقاومة وطنية شابة تعمل على تصحيح الأوضاع وترتيب الأحوال وترميم الشروخ ورأب الصدوع فلا يستأثر طرف بالمصالحة المُفَرطة على حساب مجمل الحقوق من جهة أو بالمقاومة المُفْرِطة لصالح خطط وسياسات خاصة وبدعم خارجى من جانب آخر؛ وعليه وبحسب الشاعر(بتصرف): لا يتم الاختلاف على حصة الشهداء من الأرض، فهم يصيرون سواسية ويفرشون لنا العشب كى نأتلف، ذلك لأن البلاد على أُهبة الفجر...وثالثا: تنامى القوى الداعمة للحقوق الوطنية الفلسطينية داخل الغرب الأمريكى والأوروبى وانعكاس ذلك على الإعلام بوسائله المتنوعة،وداخل الحزب الديمقراطى الحاكم من خلال موقف ساندرز وكتلته الشابة داخل وخارج الحزب (نفصل هذا الموقف فى مقال لاحق). بالطبع لا يعنى هذا انحسار صوت وحركة القوى المناوئة. رابعا:استعادة روح الكرامة الوطنية المشروعة والتى اختبرناها بنجاح فى أكتوبر 1973...

الخلاصة، أثبتت القدس القدرة على إمكان التأسيس لتاريخ جديد...كما أكدت الأحداث الجسيمة أن: السلام لا يقوم ولا يدوم على ظلم وقهر...فالسلام ثمرة العدل والحرية؛ أو بحسب كلمات محمود درويش: عندما تختفى الطائرات تطير الحمامات، بيضاء، بيضاء. تغسل خد السماء

بأجنحة حرة، تستعيد البهاء وملكية الجو واللهو. أعلى وأعلى وتطير.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern