لقى مقالنا، الأسبوع الماضى، عن موسوعة أوكسفورد للحضارة المصرية الصادر فى نهاية 2020 اهتماما من البعض حول كيفية الحصول على نسخة من الموسوعة التى تضم 60 بحثا فى 1300صفحة، وهل هناك إصدارات أخرى بنفس القدر من القيمة العلمية والمعرفية يمكن توجيه النظر إليها...
بدأت فى صرف بعض الوقت بحثا عن الموسوعات المشابهة التى يمكن عرضها للإفادة منها بحثيا وثقافيا. وتكشف لى من البحث مدى المكانة التى أصبحت للموسوعات فى ماكينة المعرفة الإنسانية منذ القرن الثامن عشر وكيف نمت هذه المكانة حتى بلغت أهمية قصوى فى العقدين الأخيرين.
فلقد أدرك العقل الإنسانى أهمية الموسوعات لحظة تحرر العقل من الأساطير والتلقين القسرى لمصلحة العلم والابتكار. فتألفت مجموعة عُرفت بجماعةالإنسكلوبيديين أو الموسوعيين فى القرن الثامن عشر لوضع موسوعة «دائرة معارف» لتكون «المستودع» المعرفى لأفكار التنوير الفرنسى ومثله العليا «بحسب فردريك كوبلستون فى موسوعة تاريخ الفلسفة». حيث تكون وظيفة الموسوعة، إضافة لتأمين ذاكرة التنوير، دحض وتصفية معارف معاصريهم من الخزعبلات، بحسب لويس عوض، وتدريب الناس على المنهج العلمى والعقلى فى التفكير، والتسلح بالمعرفة فى حياتهم اليومية. وتولى قيادة هذه المهمة من بدايتها حتى اتمامها الفيلسوف دينى ديدرو «1713 ــ 1784»، وشاركه فى مراحل مختلفة أسماء مثل:فولتير، وروسو، ودالامبير، وكوندياك، وغيرهم من أفذاذ المفكرين والعلماء فى القرن الثامن عشر. ونتج عن هذا الجهد ما عُرف تاريخيا بالموسوعة العقلانية للعلوم والفنون والصناعات «1751 ــ 1780»، التى أسهمت فى تقدم فرنسا على جميع الأصعدة...وهدف الموسوعيون منها إلى توفير مادة معرفية شاملة حول الموضوع الذى تتناوله لتعين قارئها على أن يحظى بتأسيس علمى ومدخل صحيح للموضوع من شتى جوانبه من حيث: رصد لأهم اتجاهاته وتطورها التاريخى، أهم الرموز التى أبدعت فى عناصر الموضوع المختلفة، التأصيل الفكرى لموضوعات الموسوعة...إلخ.
ومع مرور الوقت، وتضاعف المعرفة وتجددها المطرد باتت للموسوعات والأدلة والمعاجم، وما شابه من أعمال، التى تتناول الحقول المعرفية المتنوعة فى العموم أو موضوعات بعينها على وجه الخصوص، أهمية كبيرة بالنسبة للجامعات ودور النشر المعتبرة ومنحتها أولوية فى خططها السنوية للبحث والنشر. شريطة أن تحمل كل طبعة جديدا على مستوى: الأصالة الفكرية، والمادة المعرفية، والقيمة العلمية. كذلك ابتكار كل ما من شأنه أن يزيد من الإفادة من ذلك على المستويات الإخراجية والفنية الخاصة بالطبع والغلاف والإخراج الداخلى مع الإكثار من الأشكال التوضيحية والجداول والصور والرسومات الشارحة والاحصائيات...إلخ.
ولم تعد الموسوعات هى جهد لمرة واحدة يعاد طبعه كل فترة كما هو. بل صارت الموسوعة هى العمل الذى يتجدد إصداره بشكل دورى فى بعض الحالات ــ سنويا. وتعتبر فى هذه الحالة طبعة جديدة مزيدة ومنقحة. ويبدو لى أننا فى منطقتنا العربية غير مواكبين الطفرة التى لحقت بعالم الموسوعات...فعلى سبيل المثال موسوعة علم الاجتماع التى يحررها عالم الاجتماع الشهير أنتونى جيدنز «1938» صدرت للمرة الأولى فى منتصف التسعينيات وأعيد طبعها أكثر من عشر طبعات آخرها فى عام 2018 حيث تتضمن كل طبعة جديدا مهما ولافتا. وبالرغم من أن المنظمة العربية للترجمة قد ترجمتها عام 2005 عن الطبعة الإنجليزية الرابعة الصادرة عام 2001 فى 800 صفحة. فإن الطبعة العربية قد أعيد طبعها أكثر من مرة ولكن دون الأخذ فى الاعتبار الجديد الذى تضمنته الطبعات الإنجليزية التالية للطبعة الرابعة التى تمت ترجمتها.
ويعكس العدد المهول للموسوعات الصادرة فى العامين الماضيين 2019 و2020 والشهور الأولى من 2021 الأهمية البالغة للدور الذى باتت تلعبه الموسوعات سواء: أولا: المعنية بأحد الحقول المعرفية أو بموضوع بعينه، أوثانيا: المكتوبة بمنهجية ألفبائية للإعلام والموضوعات أو المكتوبة فى صورة أبحاث تقارب موضوع الموسوعة من زوايا عدة، أوثالثا: المكتوبة فى صورة سلسلة من الكتب أو الكتيبات المصنفة زمنيا أو موضوعيا...حيث يعدها البعض بمثابة البنية الأساسية المعرفية التوجيهية الضرورية للتصدى لأى إشكالية معرفية خاصة أن مبدعى الموسوعات الجدد يحرصون ــ فيما يتعلق بموضوع الموسوعة ــ على ثلاثة أمور هى: الأول: رصد التجدد المعرفى والعلمى والفكرى. الثانى: طرح أسئلة جديدة وتجريب مقاربات مبتكرة للأبعاد البحثية المختلفة.الثالث:مواكبة كل ما هو جديد من إشكاليات تقترن بالموضوعات المختلفة. الرابع: رصد المصادر الرئيسية للتوسع واقتراح قراءات مختارة للاطلاع.
فعلى سبيل المثال، وفى مطلع 2021، نجد دار نشر روتليدج تصدر موسوعات حول: النازحين«600صفحة»، الأناركية والفكر الأناركي«500 صفحة»،الماركسية ومابعد الماركسية«600صفحة»،المؤثرات البصرية ذات التقنيات الرقمية والتفاعلية الجديدة «1000صفحة»، الإعلام الرقمى والعولمة«400صفحة»،...،إلخ. كما أصدرت دار نشر بالجريف الموسوعات التالية: الاستفتاءات الأوروبية «750 صفحة»، سياسات الأسرة «750 صفحة»،...كذلك أصدرت أكسفورد من ضمن ما أصدرت: موسوعة دانتى «800 صفحة»، حرية التعبير«600صفحة»، تاريخ موسيقى الجاز «600صفحة»،...،إلخ...ولا تتوقف الموسوعات الصادرة عند حقول معرفية بعينها ولكنها تمتد لكل حقول المعرفة كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها كما تهتم بالموضوعات الجديدة والتى تتعلق بالتكنولوجيات الفائقة التقدم مثل الذكاء الاصطناعى والبيوتكنولوجى وغيرهما.
وبعد، هناك ضرورة قصوى لتخصيص قوة عمل لمواكبة ترجمة جديد الموسوعات لأنها تمثل منصة انطلاق نحو التقدم شريطة أن تترجم وتطبع حين إصدارها مباشرة. ومتابعة ما يجد عليها. وظنى أن ترجمة الموسوعات يمكن أن يقتصد وقتا طويلا للحاق بجديد المعرفة فى شتى حقول المعرفة وموضوعاتها خاصة أنها تتضمن خرائط تفصيلية حول اتجاهاتها ورموزها ومصادرها المختلفة...
إن الموسوعات المعاصرة بالكيفية التى تخرج بها تعد مستودعات ذاخرة بالعلم والمعرفة تجعلها منصات فاعلة للانطلاق نحو التقدم.