الحضارة المصرية فى القرن 21

لم تبح بعد الحضارة المصرية القديمة بكل أسرارها، خاصة أن علم المصريات، العلم أو الحقل المعرفى المعنى بالكشف عن تفاصيل هذه الأسرار، يعد علما حديثا تأسس فى القرن التاسع عشر...

 

ونظرا لأن الحضارة المصرية، القديمة، على وجه الخصوص من جهة، وامتدادها التاريخى المستمر حتى يومنا هذا،عموما من جهة أخري؛ تتضمن مادة هائلة متنوعة تغطى آلاف السنين، بحسب دومينيك فالبيل فى علم المصريات ترجمة لويس بقطر ــ 1994،... مادة غنية: تأسيسية, تدور حول الإنسان والنهر والطبيعة وفلسفة الحياة والموت والخلود والعقيدة والفن والأدب والعمارة والعسكرية والإدارة و...

لذا، ومنذ تمكن، فى مطلع القرن التاسع عشر، جان فرانسوا شامبوليون من فك شفرة الكتابة الهيروغليفية، تأسس علم المصريات. ومن وقتها لم يتوقف الباحثون عن التنقيب عن أسرار الحضارة المصرية خاصة أن: جميع الصروح والمعابد المصرية القديمة والبرديات... راحت تتكلم؛بحسب ما جاء فى تقديم مجلد جان لاكوتير المعتبر المعنون: شامبوليون: حياة من نور. (الصادر عن المشروع القومى للترجمة فى 725 صفحة عام 2000). فتوالت الكشوفات الأثرية المادية من جانب. كما تعددت المعاجم والموسوعات والكتب المتخصصة حول كل ما يتعلق بشتى مناحى حياة المصريين فى القديم واستمراريتها الحضارية عبر العصور وحتى يومنا هذا. وفى هذا المقام صدرت أعمال مرجعية مهمة حول الحضارة المصرية مثل: مصر القديمة: التاريخ الاجتماعى لتريجروكمبولويد، ومصر القديمة: موسوعة الفراعنة: الأسماء والأماكن والموضوعات لباسكال فيرنوس وجان يويوت، وتاريخ مصر القديمة لنيقولا جريمال، وحضارة مصر الفرعونية لفرانسوا دوما، والأدب المصرى القديم لكلير لا لويت، وماعت: مصر الفرعونية وفكرة العدالة الاجتماعية ليان أسمان كذلك كتابه مصر الفرعونية: تاريخ الفراعنة على ضوء علم الدلالة الحديث، ومصر القديمة لجان فيركوتير، وأثينا السوداء لمارتن برنال، والتراث المسروق لجورج جيمس،...، إلخ... إضافة للأعمال الكلاسيكية الشهيرة مثل فجر الضمير لهنرى برستيد، ومصر القديمة لجيمس بيكى،... إلخ...إضافة للمساهمات المصرية المعتبرة لسليم حسن، وأحمد بك نجيب، وأحمد قدرى، ولبيب حبشى، ومحرم كمال، ولويس بقطر،...، إلخ...

ولم يتوقف الأمر عند الكتابة البحثية أو التنقيب والحفر عن المومياوات والأهرامات بل حظيت الحضارة المصرية وعلم المصريات باهتمام عالمى على المستويين الثقافى المؤسسى والأكاديمى البحثى عبر اليونيسكو والمتاحف العالمية. كذلك عبر أقسام علم المصريات التى انتشرت فى العديد من الجامعات الأوروبية المعتبرة.

فى هذا الإطار، أصدرت جامعة أوكسفورد فى نهاية العام الماضى، 2020، فى 1300 صفحة: دليل أوكسفورد لعلم المصريات. والدليل هو مشروع بحثى كبير شارك فيه 60 باحثا. وقام بتحرير هذا العمل الموسوعى الضخم عالم المصريات بجامعة ليفربول البريطانية إيان شو وعالمة المصريات إليزابيث بلوكسام... وهو العمل الذى يعد نقلة علمية نوعية فى مجال علم المصريات... لماذا؟... تسهم أوكسفورد من خلال هذا العمل الموسوعى الكبير فى انجاز أمرين هما:

أولا: مقاربة علم المصريات بموضوعاته المتنوعة الكثيرة من خلال ما يعُرف بالمنهج المتعدد الأبعاد الذى يطبق تحليل موضوعات البحث من خلال زوايا عدة أو تخصصات مختلفة أو حقول معرفية متعددة. ما سيدفع بأخذ علم المصريات فى اتجاه مغاير يختلف عن الذى أُسرت فيه أو ما يمكن أن نطلق أسر السرديات التاريخية المجردة: تاريخ الأهرامات والمعابد والمقابر. ويتمثل هذا الاتجاه الجديد فى الكشف فيما وراء السرديات التاريخية المجردة. وذلك بإعمال نظرة أكثر عمقا وشمولا وتكاملا لحياة الناس: المادية، والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والثقافية،...، إلخ.ما يجدد علم المصريات فى القرن الحادى والعشرين، ويحرره من الرؤى العلمية التقليدية الغربية بالأساس، ويجعله مدركا ومقروءا ومتابعا ومبحوثا من قبل الشرائح الاجتماعية المختلفة.

ثانيا: فى ضوء ما سبق تضع الموسوعة جدول أعمال جديدا يتضمن تساؤلات جديدة حول الحضارة المصرية تحاول أن تكشف الحُجب عن رؤاها ومواقفها وممارساتها حيال الكثير من القضايا الحياتية من خلال الدراسة السياقية المجتمعية وربطها بنقاشات الزمن الحاضر...ما سيمنح الحياة والحيوية للحضارة المصرية القديمة ويجعلها متجددة ويضعها فى قلب العصر. وأتصور، مما سبق، أن عمل أوكسفورد الموسوعى يؤكد الملاحظة القيمة التى أبداها جيمس هنرى برستيد فى خاتمة كتابه العمدة فجر الضمير حول الكيفية التى انتقل بها العالم من العصور الوسطى إلى الحياة الحديثة قد تمت من خلال: الرؤية التى تنظر إلى الأمام وإلى الوراء معا...

بلغة أخرى، لا مناص من التقدم إلى المستقبل ما لم نمط اللثام عن الماضى... لابد من الكشف القائم على رؤية مركبة للعالم القديم وما ميزه من تفاعلات وصراعات وأشكال مؤسسية مختلفة وقوى اجتماعية وأنماط انتاج وتوزيع، ومنظومات قيمية ويدية وثقافية،...، إلخ، وأثر كل ما سبق على الناس آنذاك وعلى ما تلاه ــ العالم القديم ــ من عوالم عبر العصور...ودون ذلك لا يمكن أن نشكل العالم الجديد...هذا هو قانون الانتقال التاريخى إلى العصر الأحدث...

إن دليل أوكسفورد لعلم المصريات هو جهد بالغ الأهمية(مقدمة و60 بحثا موزعين على 10 أجزاء أو محاور بحثية) يجتهد فى تجديد علم المصريات الذى من شأنه أن يمنح نسمة حياة للحضارة المصرية فى ذاكرة المصريين والعالم يتجاوز الإبهار الحسى إلى الإلهام فى إبداع ملامح العالم الجديد... وأدعو إلى ترجمة هذا العمل إلى العربية لتعم فائدته على القارئ المتخصص والعادى على السواء...ويكون أساسا فى تجديد علم المصريات على المستوى الوطنى خاصة مع تزايد الاهتمام بحضارتنا المصرية...تحية خاصة للمصريين الذين أسهموا فى هذا العمل: ماهر عيسى، وسليمة إكرام، وخالد عصام إسماعيل، وعادل الكيلانى، وأشرف السنوسى... أننا بغير هذه النوعية من الأعمال التى تصل بين الماضى والحاضر وفق مناهج علمية عصرية لا يمكن بلورة المستقبل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern