التنافس فى الشرق الأوسط إلى أين؟

من أهم التقارير الصادرة مطلع هذا العام، تقرير صدر الشهر الماضى عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى عنوانه: تنافس القوى العظمى فى الشرق الأوسط...يكتسب التقرير، فى تقديرى، أهمية مركبة لثلاثة أسباب: أولها: موضوعه الحساس والحيوى الذى يمس مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وثانيها: جهة إصداره، وهى جهة مؤثرة ومسموعة ويعمل لها حساب ــ بدرجة أو أخرى ــ فى الجهات السياسية التنفيذية والأروقة البحثية الإستراتيجية، وثالثها: أن كاتبها ستيفن كوك أحد كبار الخبراء الإستراتيجيين النافذين فى دوائر المجلس ودوريته المعتبرة فورين أفيرز «التى تصدر كل شهرين»، وكواليس السياسة الأمريكية والإعلام الأمريكى والأكاديمية. إضافة إلى أنه أحد أهم المتابعين لدول المنطقة على مدى ما يقرب من عقدين وعلى دراية تامة بالتحولات التى جرت لدول المنطقة خلال هذه الفترة حيث أصدر ثلاثة كتب مرجعية حول المنطقة ودولها ومواطنيها لعل من أهمها: الفجر الكاذب فى الشرق الأوسط الجديد؛ الصادر قبل خمس سنوات.

 

يقع التقرير فى أقل من خمسين صفحة، وبداية من مقدمة التقرير وعلى مدى أقسامه الخمسة والاستخلاص الختامى له سوف يستشعر القارئ ـــ أراد أو لم يرد/قبل أو لم يقبل ـــ أنه أمام كتابة تتشابه ــ بدرجة أو أخرى ــ مع أجواء تاريخية مر بها العالم فى السابق مثل تلك التى شهد فيها تراجع للقوى القديمة وبزوغ لقوى جديدة، خاصة عقب حربى القرن العشرين العالميتين اللتين نشبتا فى مطلعه وقبل منتصفه، حيث تم إعادة ترتيب العالم وتقاسمه بين القوى الجديدة. الأمر الذى لم يكن الشرق الأوسط بعيدا عنه حيث تم تقسيمه بين البريطانيين والفرنسيين وفق ما عرف باتفاقية سايكس ــ بيكو آنذاك. وهو التقسيم الذى جرى عليه تعديل جذرى عقب الحرب العالمية الثانية، وترسخ تماما مع انتهاء حرب السويس فى 1956 لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى أو المعسكرين الغربى والشرقى باعتبارهما القوى الجديدة الصاعدة، وذلك على حساب القوى الاستعمارية القديمة.

لا يرصد التقرير خطط الولايات المتحدة فى المنطقة وإنما يقوم: أولا: برصد خطط كل من: روسيا، والصين، والهند ــ نعم الهند ــ والاتحاد الأوروبى للشرق الأوسط. وثانيا: يرسم لنا الهندسات والإستراتيجيات التنافسية المستجدة من قبل القوى العظمى الجديدة. وثالثا وأخيرا: موقف ــ أو لنقل ــ موقع الولايات المتحدة مما يمكن أن نُطلق عليه التنافسية الكونية/الكوكبية/العالمية الجديدة.

ينطلق التقرير من خلفية مفادها أن هناك عملية «فك ارتباط نسبي» ــ بحسب تعبير الكاتب الفرنسى المعروف آلان جريش ــ قد تمت بين القوى العظمى والمنطقة لصالح القوى الإقليمية. إلا أن الثابت خلال العقد الأخير هو أن الأوضاع فى المنطقة ازدادت تعقيدا. والأهم هو أن المصالح الإستراتيجية العليا للقوى العظمى لم تنج من الأضرار التى سببتها هذه التداعيات لأن كل قوة من هذه القوى باتت تلعب منفردة مقارنة بالصيغتين التاريخيتين الناجعتين وأقصد بهما: أولا: تقسيم سايكس ــ بيكو. وثانيا: التقاسم السوفيتى - الأمريكى...ذلك ــ وبحسب ستيفن كوك ــ حل التنافس الحاد محل الاقتسام السلس. ما جعل المنطقة تعانى احتقانا مزمنا وارتباكا فى التعاطى مع شتى الملفات، وفوضى ممتدة...

فلقد تبين أن: أولا: تكلفة الغياب النسبى لبعض القوى العظمى عن المنطقة، وثانيا: تفويض البعض الآخر لقوى إقليمية لتسيير شئون المنطقة لتحقيق مصالحها بالإنابة، وثالثا: توكيل البعض الثالث لقوى إقليمية أخرى (وأحيانا تتم المغامرة بتوكيل فواعل من خارج الشرعية المؤسسية للدول: عسكرية وإرهابية) لتنفيذ مهام محددة لصالحها، قد أدى إلى تأجيج صراعات ونزاعات المنطقة إلى الحد الذى أوصلها إلى «حافة الهاوية»؛ والتهديد بالحرب الشاملة. ومن ثم التفكير الجدى «لتقسيم إقليمى جديد». ما أدى ــ بحسب كوك ــ إلى خلق وضعية دائمة من عدم الاستقرار فى المنطقة...ففراغ المنطقة من القوى الحاسمة القادرة على الاحتواء تركها مختطفة من بعض القوى الإقليمية والفواعل الإرهابية.الأخطر ــ بحسب كوك ــ أن احتمالات تعاون القوى الكبرى والقوى الإقليمية من أجل احتواء أو على الأقل الترطيب من حدة الصراعات فى منطقة الشرق الأوسط غير متوقعة فى الآفاق.الأكثر أنه أحيانا يتم تأليب الصراعات بين القوى التى تنتمى إلى نفس الخندق...

ويخلص ستيفن كوك إلى أن الحضور المتعدد للقوى الكبرى فى المنطقة قد خلق استقطابا حادا فى المنطقة خاصة مع الغياب النسبى للولايات المتحدة الأمريكية. كما أكد أن الحضور الأوروبى ليس قويا بالقدر الكافي. كما أن تناقض المصالح بين باقى القوى الكبرى الأخرى الحاضرة فى المنطقة قد أسهم فى تأجيج الصراع فى المنطقة وسيسرع من التقسيم...

لذا يرى ستيفن كوك أنه لا مفر من تحقيق قدر من التوافق بين القوى الكبرى حول قضايا المنطقة العالقة المتنوعة، وملفاتها المفتوحة المتعددة. خاصة أن الخبر السار ـــ بحسب كوك ـــ هو عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاضطلاع بأدوارها على المسرح الدولى التى تم تجميدها فى الزمن الترامبى ومن ثم التحرك نحو: أولا: تجديد وتفعيل التعاون الغربى العابر للأطلسى بين أمريكا والاتحاد الأوروبى. ثانيا: تنشيط التعاون الدولى بدرجة أو أخرى بين القوى العظمى من أجل المنطقة، لا ضد بعضهم البعض حول المنطقة «بالطبع هذه مقولة مفخخة بعض الشيء وملتبسة وتطرح كثيرا من تساؤلات حول دلالة مقولة من أجل المنطقة تحديدا»...

ما سبق وحده يضمن تنافسية غير صراعية فى الشرق الأوسط...ولكن هل تستجيب القوى الكبرى والإقليمية خاصة مع احتمالية شك بعضهم فيما قد يحمله هذا التصور من أضرار فى سياقات مناطقية إستراتيجية وحيوية أخرى..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern