العالم والبحث عن بداية جديدة

على مدى الأسابيع الأربعة الماضية، حاولنا رسم ملامح المشهد العالمى الجديد قيد التشكل حيث تعمل فيه أقطابه القديمة: الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى على تدارك دورها ومجدها الغابر من خلال ما أطلقنا عليه «الأطلسية المتجددة» التى تهدف إلى تجديد التحالف الغربى التاريخى العابر للأطلسى لمواجهة الامتداد المتنامى للأقطاب الجديدة والتى منها: الصين وروسيا والهند.

 

فى هذا المقام،راجعنا محصلة نقاشات مؤتمرى دافوس وميونيخ للأمن، كذلك قراءة الموقفين الأمريكى والروسى وسعيهما الحثيث فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة من جهة والبوتينية القومية الصلبة من جهة أخرى لإعادة رسم مسار جديد للنظام الدولي.

فمنذ أن تفككت صيغة الثنائية القطبية عقب انهيار جدار برلين عام 1989، ظنت الولايات المتحدة أنها تستطيع أن تتحكم فى إدارة العالم فابتكرت أولا صيغة القوة العظمى الوحيدة والتى تطورت ثانيا فى ظل المحافظين الجدد من خلال إدارة بوش الابن إلى صيغة الإمبراطورية...إلا أن الصيغتين السابقتين سرعان ما فشلتا فى إدارة العالم مع البزوغ اللافت والمطرد لأقطاب عالمية أخرى...وبالنتيجة فقد العالم النموذج القديم لإدارة العالم ودخل فى تقديرنا إن جاز التعبير فى حالة من «السيولة القطبية».

وما فاقم من كارثية الوضع العالمي، الاختيار الترامبى للانسحاب من كثير من الالتزامات الدولية... وعند هذه النقطة يرصد لنا أحد المتابعين الاستراتيجيين كيف أن لحظة تراجع الولايات المتحدة عن دورها التاريخى قد أدى عمليا إلى: قطيعة واضحة عن يقينيات الماضي. فللمرة الأولى، تفتقر أمريكا إلى نموذج...وعن ذلك يقول العالم الفرنسى برتان بادي: فقدت أمريكا المخططات المتصلبة المعتدة بالنصر ثم المنتصرة، مخططات الثنائية القطبية، لم تعد سارية، وقد فات زمن الأوهام الأحادية القطبية... لم يتوقف الأمر عند حد افتقاد أمريكا لدورها التاريخى بل امتد أيضا إلى أوروبا...فالأزمة المحتقنة التى يعيشها الاتحاد الأوروبي، على مدى العقد الأخير بحسب كثير من الدراسات الصادرة حديثا تعد الأسوأ منذ أن انطلقت محاولات التكامل الأوروبي، بأشكالها المختلفة والمتعاقبة، عقب الحرب العالمية الثانية.

ولا شك أن الأزمة الاقتصادية، التى حلت بالكوكب فى 2008، قد لعبت دورا حاسما فى الكشف عن الكثير من سوءات الواقع. وكيف أن تداعياتها لم تزل سارية ومؤثرة على كل من دول الشمال والجنوب حتى يومنا هذا دون استثناء.

والمحصلة أن الرخاء الموعود لم يتحقق، والثمار المنتظرة حصدتها القلة القليلة على حساب الأكثرية على عكس ما دأب على الترويج له دعاة اقتصاد الليبرالية الجديدة/العولمة. ما نتج عنه انتفاض الكتل الشعبية فى أرجاء العالم بحثا عن المساواة فيما أطلقنا عليه النزعة المواطنية الجديدة. كما لم يتحقق السلم الدولى فكثرت النزاعات الدولية لأسباب متعددة كذلك الإرهاب الأسود، وفى هذا الإطار، تضاعف الانفاق العسكرى حيث بلغ فى 2019 للأقطاب الدولية الأولى الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، على التوالي: 750 و250 و100 مليار دولار» سنويا. إضافة إلى 100 مليار دولار أخرى تخصصها الدول الثمانى الكبار مضافا إليها إسبانيا... أخذا فى الاعتبار أن الميزانية المخصصة لحلف الأطلنطى تتجاوز التريليون دولار. وأن الميزانية التى خصصها الاتحاد الأوروبى لبند التسليح تكاد تقترب من ثلثى ميزانية الناتو أى ما يقرب من 650 مليار دولار... وهو ما دفع البابا فرانسيس فى عظة عيد القيامة، الأسبوع الماضي، أن يصف الوضع الراهن للعالم بأنه: وضع مُخزٍ وذلك بسبب النزاعات المنتشرة فى أرجاء الكوكب والتى يرافقها عجز فاضح فى إقامة التعاون الدولى الواجب لمواجهة الجائحة الفيروسية بتحولاتها النوعية المستجدة على مدى سنتين للآن...

إن المشهدية الفاضحة التى يحدثنا عنها بابا روما تعكس فى واقع الأمر أن النظام العالمى الراهن يعيش مرحلة النهايات أو الشيخوخة أو العجز أو الأفول/ الغروب أو ... بحسب ما تردد وتعدد من مصطلحات فى كثير من الأدبيات الراصدة للحظة التاريخية التى يمر بها العالم من زوايا متعددةــ وأنه يبحث عن بدايات جديدة.

لقد بدأ الادراك بضرورة البحث عن بداية جديدة فى السنوات الخمس الأخيرة التى صادفت تبلورا مكثفا لمجموع الأزمات التى واجهت النظام العالمى على مدى ما يزيد على مائة عام وأصبح من الجلى عدم القدرة على التعايش مع نظام لم يعد صالحا وبات قديما خاصة فى ظل الرأسمالية الجائرة والجائحة الفيروسية. فتحت سقفهما تشكلت الأزمة المركبة التى يمكن أن نرصد بعضا من عناصرها فى:

أولا: الارتباك الأمريكى فى الداخل والخارج والذى تجلى فى تصدع الجسم الاجتماعى الأمريكى وانقسامه من جانب، والخروج على قواعد اللعبة العالمية التى وضعتها أمريكا نفسها من جانب آخر. ثانيا: اضطراب الأحوال الداخلية الأوروبية ما أدى إلى حراكات قاعدية ضد مؤسسات وأفكار ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإيقاظ كثير من المسائل الاقتصادية والسياسية والهوياتية والفكرية كان يُعتقد أنه تم تسكينها عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية. ثالثا: صعود لاعبين جدد إلى المسرح العالمى يتنافسون على رقعة الشطرنج العالمية. رابعا: فشل المؤسسات الدولية التى تأسست بعد الحرب العالمية الثانية: الثقافية، والتنموية، والمالية، فى أن تؤمن التنمية المستدامة للكوكب فى إطار تعاون دولى حقيقى بين دول الشمال والجنوب. خامسا: تجدد النزاعات التى كانت مشتعلة قبل عقود فى شتى أنحاء العالم فى وقت واحد... ما ضرب شرعية النظام الدولى بمراحله: ثنائية القطبية، والأحادية القطبية، والسائلة القطبية فى الصميم. واستدعى بحث العالم عن بدايات جديدة أو التأسيس لبداية جديدة... فهل يمكن تحقيق ذلك؟... وكيف؟


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern