أحلام فترة العزلة.. (18): «قصة اليسار الأمريكي»

(1)
«ما الفرق بين اليسارين: الأوروبى والأمريكى؟»

من إيجابيات فترة العزلة إتاحة الفرصة للمرء كى يتحقق ويتقصى ويتعمق.. وأن يحلم أحلاما واعية يدرك من خلالها أفكارا وأبعادا جديدة حول الظواهر والحقائق المتنوعة تتجاوز الانطباعات المستقرة السطحية..

فى الأسبوع الماضى تطرقنا للمرشح الرئاسى الديمقراطى وعضو مجلس الشيوخ الأمريكى «بيرنى ساندرز- (79 عاما)»، وكتلته الشابة التى تنتمى للطبقة الوسطى فى الأغلب والذين وصفناهم «بالتقدميين».. من خلال قفازه الصوف البسيط الذى ارتداه فى حفل تنصيب الرئيس «جون بايدن» ودلالة هذا القفاز من تحولات فى الداخل الأمريكى على المستوى المجتمعى: الطبقى والجيلى، مخالفة لما تعودنا أن نردده عن الولايات المتحدة الأمريكية.. وكيف أن هناك أمريكا جديدة بازغة تميل كتلة فيها إلى الانحياز لليسار.. وكيف أن لليسار الأمريكى جذورا تاريخية- بحسب كثير من المصادر- فى قارة أرض الميعاد.. إلا أنه يسار لا يتطابق مع اليسار الأوروبى.

فالأخير هو نتاج تاريخ اقتصادى اجتماعى ممتد أنتج جسما طبقيا واضحا ومن ثم خريطة فكرية متنوعة جلية.. بينما القارة الجديدة أسست لنخبة حاكمة شمالية/ جنوبية متقاربة ومتداخلة المصالح تسيطر على قاعدة جماهيرية تجمعها الحالة العبودية وجهت لتأسيس القارة الجديدة.. وفى إطار مقاومة العبودية وتحسين شروط الحياة تنوعت أطروحات النخبة بين التعاطف والإزهاق.. فى هذا الإطار برزت ثلاثة توجهات فكرية لمقاربة الوضع الاجتماعى كما يلى: أولا: توجه بقاء الوضع على ما هو عليه، أو التيار المحافظ. ثانيا: توجه تحسين الأحوال نسبيا أو التيار الليبرالى. ثالثا: توجه إحداث تغيير جذرى فى الوضع القائم أو التيار الراديكالى.. فى هذا السياق تبلورت الأحزاب والحركات التى انحازت للقاعدة المستعبدة تحت مسميات اشتراكية نسبيا (أى ليس بالمعنى الأوروبى أو الستالينى) بعضها انحاز لأن يكون ليبراليا وبعضها انحاز للراديكالية التى تسعى لتغيير أحوال هؤلاء المستعبدين دون تغيير النموذج الأمريكى الرأسمالى.

(2)

«اليسار الأمريكى: التأسيس.. الذروة.. الإقصاء»

ومن حلم التقصى الواعى عن التمييز بين اليسارين الأمريكى والأوروبى ننتقل إلى حلم واع آخر حول جذور اليسار الأمريكى من خلال عديد المصادر.. كانت هناك إرهاصات لحضور يسارى على المستويين الفكرى والحركى بفضل الوافدين الأوروبيين لأرض الميعاد الجديدة. فعرفت أمريكا الأفكار اليسارية على يد الصحفى الألمانى «جوزيف ويدماير» (1818- 1866) مؤلف كتاب «الثورة» والذى كان له الفضل مع مدرس موسيقى ألمانى- آخر- هو «أدولف فريدريك سورج (1827- 1906) و«يوجين ديبس» (1856- 1926)، مؤسس الحزب الاشتراكى، مع آخرين، على إيلاء أوضاع العبيد والعمال عناية وحماية فى أمريكا من جهة ومحاولة فهم وتحليل الأسباب إلى سوء أوضاعهما من جهة أخرى.. وبنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تأسست أحزاب اشتراكية متنوعة واتحادات ونقابات عمالية ومهنية متعددة حظيت ببعض الانتشار والحيوية خاصة مع الأزمة الاقتصادية الأكثر إيلاما فى القرن العشرين المعروفة باسم «الكساد الكبير»، وهى الفترة التى عُرفت بالعصر الذهبى لليسار الأمريكى (عشرات التنظيمات: الحزبية والنقابية، إضافة لـ300 إصدار يسارى).. وكان نجم هذا العصر هو السياسى «نورمان توماس» (1884- 1968) الذى قاد الحزب الاشتراكى بعد أن جدده واستطاع أن يضم إلى قواعده حشودا معتبرة عمالية وطلابية إضافة إلى مثقفين من نوعية: «جون ديوى» و«بول دوجلاس».. كما ترشح للرئاسة فى 1928.

إلا أن مصالح المجمع الصناعى العسكرى من خلال الحملة العدائية التى عُرفت «بالمكارثية»، نسبة إلى النائب الجمهورى فى مجلس الشيوخ الأمريكى (لمدة 10 سنوات من 1947 إلى 1957 عن ولاية «ويسكونسن») «جوزيف مكارثى» (1908- 1957)، تم استهداف المعارضين للسياسات السائدة من سياسيين ومثقفين وأدباء وفنانين بحجة أنهم يساريون.. وهى حملة شملت الليبراليين واليساريين (بالمعيار الأمريكى).. ولكنها أطلقت مقاومة كبيرة من أجل الحرية من خلال الإبداع: الفكرى، والأكاديمى، والفنى السينمائى والمسرحى والغنائى خاصة فى الخمسينيات من جانب. والحركى من جانب آخر.

(3)

«عقد الخمسينيات: مقاومة الإقصاء المكارثى»

شهدت الخمسينيات تمردا عارما من عناصر اليسار الإبداعى ضد الإقصاء الذى فرضته «المكارثية» عليهم بشتى الوسائل.. ومن رحم الخمسينيات ولد عقد الستينيات الذى يمثل نقلة نوعية ليس فى تاريخ أمريكا فحسب وإنما فى تاريخ العالم، إنه عقد الحلم الكبير والخروج على النص التاريخى الساكن الذى اتسم بالامتثال.. نواصل أحلامنا الواعية مع عقد الستينيات.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern