(1)
«سر جورج إسحق: الناس»
منذ عدة أعوام، كنا نجلس فى أحد الأماكن العامة، جورج ومجموعة من الأصدقاء وكاتب هذه السطور، ولاحظت أن هناك أكثر من أسرة كانت تشاركنا المكان.. ما إن انتبهت هذه الأسر لوجود «جورج» حتى بدأت بأجيالها المختلفة يلوحون له من بعيد،
وبعض منهم: رجال وسيدات؛ قاموا لمصافحته وتقبيله امتنانًا له على دوره الوطنى.. فى ليلة أخرى، كنا نسير فى وسط البلد، ولاحظت كيف يستوقفه المارة، إما للتحية أو للنقاش أو لطلب الخدمة. وهو بكل بساطة لا يصد أحدًا.. ولا يصعب على المرء أن يدرك أن «الناس» هم سر بزوغ «جورج» وقوته واستمراريته والتزامه بتغليب الصالح العام.. وأذكر أنى فى إحدى الندوات التى عقدت فى منتصف التسعينيات وكنت أقدم بحثا عن «مشاركة الشباب القبطى فى الحياة السياسية» سُئلت: لماذا لا يوجد «مكرم عبيد» معاصر؟. فأجبت: هناك «جورج إسحق».. وزدت: إذا كان «مكرم عبيد»، وبحسب «مصطفى الفقى» فى رسالته الرائدة والمبكرة عن «مكرم عبيد» قد قال إنه: الوحيد من بين السياسيين الأقباط الذى عبر حاجز الأقلية ليصبح شخصية عامة متمتعا بشعبية واسعة بين المسلمين قبل الأقباط».. فإن جورج إسحق «قد خرج على أنماط التمثيل المصرى المسيحى التى كرستها دولة يوليو، سواء الناصرية بحصر تمثيل الأقباط فى (الانتلجنسيا والتكنوقراط).. أو دولة يوليو المضادة للناصرية التى حصرتها فى (البيروقراطية: الحكومية، والدينية، والحزبية)، (المقيدة والموجهة) من جانب، أو فى (الأثرياء) من جانب آخر.. وهو نموذج سيشجع آخرين على الخروج على الأنماط المذكورة يقينًا.. فكان (جورج إسحق) الكادر السياسى الذى يحصل على شرعيته من الناس مباشرة».
(2)
«مرجع وهدف جورج إسحق: الوطن»
أيقن «جورج» أنه فى سياق مُركب، فناضل من أجل تأمين تحول سلمى نحو الدولة الحديثة العصرية مثقل بأنماط سياسية تنتمى لما قبل الدولة الحديثة، بأنه لا مناص من استدعاء الوطنية المصرية، فهى اليقين الوحيد الذى لا يمكن الاختلاف عليه من جهة. كذلك تضمن حماية حقوق الناس ذروة الأهداف الوطنية.. وساهم فى ذلك انتماء جورج الطبقى والاجتماعى.. فهو ابن عائلة تنتمى للطبقة الوسطى المسيحية المدنية الساحلية التجارية والتى تدين بالولاء لحزب الوفد تاريخيًا.. على الخلفية السابقة، تبلور وعى «جورج» فى الأربعينيات، زمن: الطليعة الوفدية، والأحزاب الراديكالية، ولجنة الطلبة والعمال، والتى تكللت بثورة اجتماعية حققت الاستقلال والتنمية الصناعية المستقلة - إلى حد ما - من خلال المؤسسة الاقتصادية (1957) التى قادها «سمير أمين» (المصرى المسيحى الذى كسر حاجز القيد الدينى إلى الوطنى فالعالمية، ولكنه كان ينتمى إلى الانتلجنسيا)، فكان لها أعظم الأثر عليه.. واقترب من جماعات اليسار والفنون والإبداع المصرى فى الستينيات.. من محصلة ما سبق، تشكلت توجهات جورج وممارساته وفق الوطنية المصرية العريضة.. حتى بعد أن ابتُلينا فى السبعينيات بالتوترات الدينية زادته إصرارا على مواجهتها وفق الوطنية المصرية العريضة، لا الدينية/ الطائفية الضيقة.
(3)
«جورج إسحق: تاريخ»
فى ضوء ما سبق، خاض «جورج» تجربة تاريخية مهمة متعددة ومتنوعة على مدى عقود عاصرت وشاركت بعضها منذ العام 1986 (احتضانه فى منزله للمثقفين الذين عارضوا مؤتمر الأقليات فى 1994، وخروج البيان الرافض من عنده، توليه مسؤولية «كفاية».. إلخ.. قدم فيها «جورج» نموذجا للانفتاح والمصالحة والتحرر من القوالب، حتى فى الفترات التى كان فيها حزبيا.. كما لم يهتم بأن يكون من ذوى المناصب.
عزيزى «جورج إسحق»، عمنا الذى قاد وشارك كثيرًا من الأحداث والفعاليات السياسية على مدى عقود، مقدمًا نموذجًا فى الحضور السياسى والمشاركة الفعالة والخدمة الوطنية، مؤسسًا لتاريخ مغاير فى الوجود السياسى القائم على المواطنة وليس على الملة أو الطائفة أو المؤسسة الدينية.. مستلهما تجربتى «الوحدة الوطنية المصرية ومكرم عبيد» فى زمن النضال من أجل الاستقلال الوطنى (بحسب محمد عفيفى فى «معا فى الهم العام: أصوات قبطية قبل 25 يناير: جورج إسحق وسمير مرقص ونعيم صبرى وآخرين.. 2015، من ضمن أوراق ندوة التاريخ الشفوى: مقاربات فى الحقل السياسى العربى).
عمنا جورج؛ نعم.. نعلم كم كانت قسوة تجربة الإصابة بالجائحة الفيروسية.. لكنك قاومت المرحلة الخطيرة.. فلا تستمرئ فترة النقاهة.. انهض..»كفاية».
ما بعد المقال: نواصل أحلام فترة العزلة (17) فى مقالنا القادم.