أوروبا الجديدة.. دروس وتحديات

حدث كبير, بل تاريخى, لم يحظ بالاهتمام الكافى.. ألا وهو توقيع الدول الأوروبية على معاهدة لشبونة فى ديسمبر الماضى.. ففى احتفال بسيط أقيم بدير جيرونيمو العريق فى لشبونة بالبرتغال.. وعلى خلفية موسيقى تعبر عن التراث الموسيقى الأوروبى تم توقيع هذه المعهدة.. وهى الوثيقة التى ستأخذ أوروبا إلى القرن الحادى والعشرين بحسب ما جاء فى عنوانها.. تأخذه وقد وحدت بين دولها من أجل المصالح البعيدة المدى للقارة الأوروبية..

بيد أن أوروبا الجديدة والتى أقرت كل دولها على ما جاء فى المعاهدة (فيما عدا أيرلندا التى سوف تعود إلى برلمانها للموافقة عليها خلال العام الحالى وبتوقيعها تعمل أوروبا , بكامل دولها بما جاء فى المعاهدة) لم تلبث أن تتعرض للتحديات وباتت أمام اختبار جدى يتمثل فى استقلال كوسوفا الذى أعلن منذ أيام, والذى يشير إلى احتمال تجدد صراعات متعددة المستويات: دبلوماسية, وسياسية, وعسكرية, واقتصادية..كيف؟


بداية, لابد من تأكيدأن معاهدة لشبونة لا تقل أهمية عن معاهدة وستفاليا التى وقعها الأوروبيون عام 1648 والتى أنهت ما عرف آنذاك (منتصف القرن السابع عشر) بحرب الثلاثين سنة والتى كانت تدور بين الأوروبيين على أسس مذهبية وعرقية من جهة, كذلك كانت هى السبيل لميلاد الدولة من جهة ثانية, وأخيرا إقرار مبدأ المساواة بين كل الدول التى باتت تتمتع بالسيادة دون النظر إلى عدد السكان أو المساحة أو الثروة أو التنوع المذهبى أو الإثنى من جهة ثالثة..

ما إن نتذكر هذا الحدث التاريخى نعرف أن معاهدة لشبونة تأتى لتجدد القارة الأوروبية على استيعاب التفكك الذى حدث لكثير من الكيانات القومية الأوروبية ومثل خروجا على شرعية وستفاليا وتحديا لها.. فعلى الرغم من أن أوروبا تعرضت لتفكك كيانات متعددة القوميت مثل الاتحاد السوفيتى وتشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا, فإن القارة الأوروبية أبدت قدرة ذاتية على إعادة اندماج الدول الوليدة فى اتحادات قارية وإقليمية وجمركية وسياسية وثقافية, الأمر الذى ساعد على علاج الترنح الذى طال الأسس القومية للدولة والتفكك الذى أصاب الدول الاتحادية.. وهنا تأتى أهمية معاهدة لشبونة.. حيث تعد من أهم المواثيق التى تم التوافق عليها بين مجموعة من الدول منذ معاهدة وستفاليا التى وقعت فى عام 1648. فكلتاهما ترتب عليه وضع جديد, حيث الأولى (وستفاليا 1648) كانت الأساس فى تأسيس الدول القومية واندماج مكونات كل دولة معا فى إطار علاقات متساوية بينها على قاعدة المواطنة داخل الدولة الواحدة من جانب, وعلى قاعدة الاستقلال بين الدول القومية من جانب آخر.. والثانية (معاهدة لشبونة 2008) يترتب عليها ميلاد الدول الأوروبية الواحدة واندماج كل الدول الأوروبية فى إطار قارى جامع وتأسيس ما يمكن أن نطلق عليه “المواطنة الأوروبية”.


والقارئ لنص المعاهدة يجد أنها تؤكد مرجعية الدولة والقومية وسياداتها فى صورتها التاريخية, مع قبولها لأن تكون للدول الوليدة حضورها القومى فى إطار قارى جامع من واقع التراث الثقافى والدينى والإنسانى المشترك للقارة الأوروبية القائم على الحقوق الأصيلة للشخص الإنسانى من حرية وديمقراطية ومساواة وحكم القانون, كما جاء فى المادة الأولى للمعاهدة. كما تراعى المعاهدة حقوق الأشخاص الذين ينتمون للأقليات, وتؤكد أن القيم الأساسية التى وردت سابقا سوف تكون قيما مشتركة لكل أعضاء المجتمع الأوروبى حيث التعددية, وعدم التمييز, والتسامح, والعدالة والتضامن, والمساواة النوعية.


فأوروبا الموحدة باتت قوة سياسية منافسة لأمريكا حيث ناتجها المحلى قد تجاوز 10 تريليونات دولار وهو مايزيد عن الناتج المحلى لأمريكا. إن نجاح أوروبا فى استيعاب دول البلطيق وتركيا والدول الجديدة نتاج التفكك فى الإطار القارى الجامع سوف يدعم عملية التكامل السياسى فى أوروبا, كما سيفعل القدرات الأوروبية فى شتى المجالات. بيد أن التحرك الأوروبى يواجه الآن بأمرين: الأول المخططات الأمريكية التى تحاول أن تضغط على أوروبا فى أن تدفع ثمن تكلفة التوسع الأمريكى الإمبراطورى. وللتذكير فقط نقول كيف تلح أمريكا على فرنسا وألمانيا لزيادة قواتهما فى أفغانستان, كذلك تحاول أن تخيف أوروبا من الإرهاب الدينى. الأمر الثانى هو تهديد روسيا بوتين إلى أوروبا إذا ما قبلت بولندا وتشيكيا أن تنشر الصواريخ الأمريكية على أراضيهما, كذلك قبول انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسى. وهكذا يستعيد النظام الدولى بعضا من ملامح الحرب الباردة.


وأخيرا أجج إعلان استقلال كوسوفا ذات الأغلبية الألبانية المسلمة من كل من دعم أمريكى رسمى ورفض أمريكى غير رسمى يلتقى مع الدعم الروسى. وليلاحظ القارئ الكريم كيف تلتقى مصالح روسيا مع بعض من رموز المحافظين الجدد فى أن كوسوفا ستكون بوابة للإرهاب كما أنها سوف تعيد إلى الذاكرة الصراع بين الشرق والغرب مرة أخرى كما حدث فى معركة كوسوفا بولى فى القرن الرابع عشر إبان الامتداد العثمانى البازغ.


ومرة أخرى تواجه أوروبا الجديدة تحديا من قبل أمريكا وروسيا على الرغم من اختلاف دوافع كل منهما. إن القوة المحتملة لأوروبا بسبب محاولتها للتوحد واندماج دولها تمثل خطرا على أمريكا من جهة, ولروسيا التى تحاول استعادة موقعها العالمى ولو على حساب حق الشعوب فى الاستقلال. وعليه يتعرض مشروع أوروبا الجديد للكثير من المخاطر بالرغم من أهمية ما يطرحه ويمكن أن يكون نموذجا إنسانيا كونيا يقتدى به من خلال وثيقة الحقوق الأساسية التى تستلهمها معاهدة لشبونة وتحمل ستة عناوين هى: الكرامة, الحرية, المساواة, التضامن, حقوق المواطنين, العدالة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern