التعاون الدولي أو الفشل الأخلاقي الذريع

على مدى شهر يناير الماضي، تابعت الملاحظات الدورية التي تصدر عن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في إطار ما يعُرف بالإحاطة الإعلامية الدورية بشأن جائحة كوفيد ــ 19...فبعيدا عن الأمور التقنية الدقيقة ــ على أهميتها ــ فإنها تكشف بجلاء عن أحوال الكوكب

وعن ديناميكية العلاقة بين شماله وجنوبه في ظل أزمة كارثية تواجه الجميع دون استثناء...فمن أهم ما أكد وألح عليه هو ضرورة أن تلتزم الدول ــ خاصة الغنية ــ ما يمكن أن نطلق عليه، بروتوكولا أخلاقيا لمواجهة الجائحة الفيروسية...
فلقد رصد السيد مدير منظمة الصحة العالمية عدة ملاحظات حول المواجهة الدولية للجائحة الفيروسية تتنافى مع القيم الإنسانية والأخلاقية من شأنها أن تؤخر كثيرا من إنهاء ما تمثله من أضرار على حياة مواطني الكوكب...من هذه الملاحظات نشير إلى ما يلي: أولا: كشفت الجائحة عن أوجه انعدام المساواة في عالمنا واستغلالها من قبل البعض. ثانيا: إضفاء النزعة القومية على اللقاحات وتوظيفها لخدمة أهداف سياسية ضيقة. ثالثا: اكتناز(احتكار) البعض للقاحات. على الرغم من امتلاك هؤلاء البعض لفائض من هذه اللقاحات.
وقد اثارت هذه الملاحظات وغيرها المنظمة ما دفعها لوضع تقرير عنوانه: لقاحات كوفيد ــ 19: الاعتبارات الأخلاقية والقانونية والعملية"؛ الذي ناشد الدول والشركات على ضرورة التعاون الدولي من أجل توزيع اللقاحات على نحو عادل ومنصف. أخذا في الاعتبار وهم القضاء على الجائحة في موضع واحد ما لم يتم القضاء عليها ــ وبشكل متزامن ــ في كل المواضع. والتنبيه بأن أي تأخير في المواجهة يعني ما يلي: أولا: إمكانية تحور الفيروس وظهور سلالات جديدة سريعة الانتشار تُصعب وتؤخر المواجهة لأجل غير محدود. ومن ثم تزيد من أعداد الإصابات والوفيات. وثانيا: تفاقم من التداعيات الاقتصادية العالمية.
وفي ضوء ما سبق، ناشدت منظمة الصحة العالمية، على لسان مديرها العام، دول العالم، خاصة الأوروبية (حيث كان قد أعلن عن خطة أوروبية لمنع تصدير لقاحات كوفيد ــ 19)، بضرورة مراعاة التعاون المشترك بين دول العالم لمواجهة الجائحة الفيروسية...مؤكدا انه إذا كنا تعلمنا درسا واحدا خلال العام الماضي، فهو أنه عندما يعمل كل واحد منا بمفرده، نكون عرضة للخطر، ولكن عندما نعمل معا، يمكننا إنقاذ الأرواح... ومن ثم، علينا أن نوحد جهودنا لمواجهة التهديد الفيروسي العالمي. لأنه يقتل بصمت. لذا يتوجب إيلاء المزيد من العناية لمكافحته...وهو أمر لن يتحقق ما لم نلتزم بالعمل المشترك في إطار نهج علمي متناغم بين جميع الأطراف: السياسيين، والفنيين، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والدول ومؤسساتها،...،إلخ، في شتى قارات العالم...شريطة أن يتضمن هذا النهج كل عناصر المواجهة مجتمعة من: تشارك في البحث والتطوير والتصنيع فالتوزيع العادل...بما يدعم الإنصاف في إتاحة اللقاحات ويصب في مصلحة جميع البلدان ــ بطبيعة الحال ــ دون استثناء...ولعل من أهم ما صدر عن منظمة الصحة العالمية في هذا السياق، هو ما نشر في 26 يناير الماضي عندما أشارت في ملاحظاتها الدورية على أن: اتساع الهوة بين ما يملكون ومن لا يملكون في هذا العالم. وذلك بانخراط البلدان الغنية في نشر استعمال اللقاحات، بينما لا تملك البلدان الأقل نموا إلا الفرجة والانتظار. (أظن أن مفردة تورط أدق من انخراط ذلك لأن القيم والأعراف الأخلاقية تعتبر ذلك جريمة إنسانية)...وهو ما وصفته الملاحظات الدورية لمنظمة الصحة العالمية: بالفشل الأخلاقي الذريع(ملاحظات 18 يناير الماضي) إذا ما غابت العدالة عن الجميع...
والخلاصة، فإن إدارة الأزمة وفق نهج سوقي (وبلغة أخرى نيوليبرالي) سوف يؤدي بنا جميعا إلى الهلاك...فحصانة القادر دون غير القادر سوف يكون لها أثر كارثي على الاقتصاد العالمي... وتكفي الإشارة إلى أن 10% من ساعات العمل العالمية قد فُقدت في سنة الغلق الفيروسية 2020. ما أدى إلى انخفاض دخل العمالة العالمي بما يقارب 4 تريليون (ألف مليار) دولار أمريكي...ما نتج عنه انكماشا اقتصاديا قارب ال 10%. وزيادة لمعدلات الفقر والفقراء وأعداد غير العاملين...(وقد أشرنا لذلك تفصيلا في مقالنا عن الانكماش الاقتصادي لسنة 2020 والمتوقع في 2021 في جريدة الأهرام بتاريخ 10 أكتوبر الماضي).
أي أن الإخلال بالقواعد الأخلاقية التعاونية التكاملية التي من شأنها تحقيق التمكين والمساواة بين مواطني العالم في مواجهة الجائحة الفيروسية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ إنما يعني ــ حتما ــ فشلا اقتصاديا...
في هذا السياق، وبالتزامن مع الملاحظات الدورية لمنظمة الصحة العالمية، بدأت موجة من التقارير والدراسات والكتب ــ صدرت مطلع هذا العام 2021ــ للتأكيد على أنه: لا مناص من التعاون الدولي ليس فقط في مواجهة الجائحة الفيروسية وإنما لابد من أن يمتد التعاون إلى مجمل عملية التنمية المستدامة للكوكب...ذلك لأن مستقبل الكوكب بات مرهونا على الأخذ بمبدأي التعاضد والشراكة بين دول العالم: شمالها وجنوبها...ما يعني ضرورة إعادة النظر في المنظومة العالمية: الاقتصادية والسياسية...أو ما تم التوافق على تسميته بالفعل الجماعي لإنقاذ الكوكب مما يتهدده من أخطار وفق سياسة كوكبية ــ مثل "أجندة 2030"للتنمية المستدامة ــ تراعي السياسات المختلفة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية...
في كلمات ــ أشبه بالتويتات ــ إما القبول بالتعاون الدولي أو الوقوع في فشل أخلاقي ذريع وبالتالي إخفاق اقتصادي مروع...وإما ابتكار نظام اقتصادي جديد يراعي المساواة وصالح الأكثر فقرا والمهمشين والدول الأكثر فشلا، ويعبأ بمستقبل الكوكب أو تدمير الكوكب حيث لا نجاة لأحد... بلغة أخرى، صياغة اقتصاد وثقافة وسياسة تكون في خدمة التنمية المستدامة تقود العالم لزمن أخضر نضر تعود ثماره على الجميع دون استئثار لقلة على حساب الأكثرية...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern