ما مصير التنمية المستدامة؟

أحد أهم الأسئلة الكبيرة التي انشغل بها العقل الكوني عقب ابتلاء مواطني الكوكب بالجائحة الفيروسية هو ما مصير التنمية المستدامة؟...خاصة وأن خطط المنظومة الدولية: أنظمة ومجتمعات محلية ومؤسسات دولية قد استنفرت

عقب الأزمة المالية الأسوأ في 2008 كي ترى مخرجا مبتكرا لها لإنقاذ مستقبل الكوكب الذي يعاني اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والانتهاك البيئي، ...
والآن أصبح عليها (المنظومة الدولية) أن تواجه موقفا مصيريا مركبا...فبالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التاريخية هناك الجائحة الفيروسية ــ التي لم تزل تصاحبنا للعام الثاني على التوالي ــ والتي سببت حالة من الشلل الممتد في عديد القطاعات: الاقتصادية والمجتمعية...ما فاقم من الأزمة الاقتصادية/المالية العالمية...وتشير أكثر الآراء تفاؤلا حول إمكانية تجاوز هذه اللحظة المصيرية بأن العالم سوف يحتاج إلى فترة تعافي غير قصيرة...ما يُلزمنا إلى إعادة النظر في مستقبل التنمية المستدامة: المفهوم والسياسات والخطط...
إن هذا ما حاول أن يلفت النظر إليه الدكتور حسين اباظة (الخبير السابق في برنامج الأمم المتحدة للبيئة) في كلماته التي وردت في تحقيق الأهرام ــ المتميز ــ المعنون: "تغيير المناخ خطر يهدد سكان العالم"؛ المنشور بتاريخ 11 يناير الماضي والذي قام به الأستاذ مصطفى الغمري...فلقد أشار إلى أن العالم اليوم يراجع فكرة التنمية المستدامة فتلك الفكرة مستحيلة مع استهلاك الموارد النادرة أي كل الموارد غير المتجددة فلا يمكن أن تحقق استدامة على موارد توشك على الانتهاء...وللوهلة الأولى قد يبدو وكأن الكلمات السابقة تحمل نقدا للتنمية المستدامة...إلا أنني أتصور أن النقد هو في واقع الحال يمس السياق الذي يصر على انتهاك البيئة واستهلاك الموارد دون تقدير العواقب المدمرة للسلوكين الانتهاكي والاستهلاكي...ذلك لأن أحد الشروط الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة هو وقف كل ما يهدد الكوكب من أخطار. ومن ثم إعادة النظر في طبيعة وجوهر العملية التنموية وكيفية جعلها: مركبة، وشاملة، ومستدامة أي ممتدة عبر الأجيال ولأزمان...لذا تبلور التعريف الأساسي للتنمية المستدامة ــ بحسب التقرير الذي حمل عنوان مستقبلنا المشترك أو ما يعرف باسم تقرير برونتلاند للتنمية المستدامة ــ وذلك كما يلي: التنمية المستدامة هي التنمية القادرة على تلبية احتياجات الأجيال الحالية، دون أن يكون ذلك على حساب قدرة الأجيال المستقبلية على أن تفي باحتياجاتها...وعليه فإن التنمية المستدامة المستهدفة تتحقق نتيجة لعلاقة متقاطعة بين البيئة، والاقتصاد، والقضايا المجتمعية التي تتعلق بالمواطن في شتى مجالات حركته...
بالمعنى السابق فإن التنمية المستدامة تعد اجتهادا متميزا في سلسلة الأطروحات التنموية التي عرفها العالم في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي منذ الأزمة الاقتصادية الأشهر في ثلاثينيات القرن الماضي مثل: الأطروحة الكينزية، وأطروحات التحديث عموما، وأطروحة التحديث وفق النموذج الغربي، وأطروحة التنمية المجتمعية بتجلياتها المتتالية خاصة التي حاول أن يبتكرها الجنوب كأطروحات وطنية ذاتية تنموية في ضوء نظرية التبعية، ومقاربة التنمية إنسانيا...ثم محاولات المؤسسات الدولية في تطوير المقاربة التنموية في ضوء ضغوط الحركات القاعدية الشعبية المواطنية المناهضة للعولمة والمدافعة عن البيئة، والمناضلة من أجل المساواة لوقف التنمية اللامتكافئة بين الشمال والجنوب من جهة ووقف تدمير الكوكب بفعل الإنضاب الممنهج لموارده والإخلال المنظم لنظامه الإيكولوجي من جهة أخرى...ذلك لأن مصير الإنسانية أصبح على المحك، لأن ما يضاهي الحرب خطرا هو احتمال تفشي الفوضى نتيجة انتشار الجوع وحلول النكسات الاقتصادية وإصابة البيئة بالكوارث وتفشي الإرهاب ــ بحسب النبوءة المبكرة للمستشار الألماني الشهير ويلي برانت (1913 ــ 1992)...ومن هنا جاءت أطروحة التنمية المستدامة باعتبارها عملية مجتمعية شاملة وليست مجرد ممارسات تقنية منفصلة عن بعضها البعض...
المحصلة أن التنمية المستدامة ومن خلال حزمة من الأهداف (17 هدفا) متشابكة أسست لمقاربة كلية وتفصيلية في آن واحد...فلا يمكن القضاء على الفقر دون نظام اقتصاديا جوهره العدالة وحماية البيئة والصحة والطبيعة. كذلك لا يمكن القضاء على الجوع دون نظام زراعي حديث يقوم على الرشد المائي والبيئة الخضراء ونظم غذائية حديثة وصحية متطورة. كما لا يمكن من القضاء على الجهل دون نظام تعليمي وثقافي شامل ومتجدد ومنفتح،...،إلخ...أخذا في الاعتبار الترابط الشديد بين هذه الأنظمة التي تحقق مواطنة مستدامة تقوم على علاقة وثيقة بين: جودة الحياة، والبيئة، والبنية التحتية والموارد...
مما سبق، نخلص إلى أن الإشكالية الحقيقية هي أننا شرعنا في محاولة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة ــ وهو أمر محمود ولا شك ــ دون أن يواكب ذلك تغيرات في السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية. من هنا نتج التناقض بين التنمية المستدامة. ولا يعني ما سبق أننا لا نحتاج إلى مراجعة ما تم من جهود في سبيل تحقيق أجندة أهداف التنمية المستدامة والمستحقة بقدوم 2030...خاصة وأن هذه الأجندة قد تعثرت بدرجة أو أخرى بفعل الجائحة الفيروسية من جانب. وتداعياتها الاقتصادية من جانب ثان. والأهم الإصرار على سياسات اقتصادية مضادة للبيئة من جانب ثالث...وعليه جاء الحديث عن العقد الأخضر كما أشار الدكتور أباظة...ولكن العقد الأخضر لا يتناقض مع التنمية المستدامة وإنما مع السياق الذي تتم فيه ألا وهو السياسات الاقتصادية وما ينتج عنها من إخلال بالبيئة وإفساد للطبيعة...
ففي سلسلة مقالات حول الزمن الأخضر Green Era؛ كتبناها في مطلع 2020، أوضحنا كيف أن جيريمي ريفكين وناعومي كلاين ــ من الكتاب البارزين في مجال التحولات الجذرية التي تطال العالم ــ قد طرحا ما أطلقا عليه "الصفقة الخضراء الجديدة"، لمواجهة رأسمالية الكوارث...وتستند هذه الصفقة على التحول التام ــ وفورا ــ إلى الاقتصاد الأخضر الذي يعتمد على الطاقة المتجددة...ما يعني مراجعة أهداف التنمية المستدامة وفق الصفقة الخضراء الجديدة...وهو ما يشغل اهتمام العالم اليوم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern