التحدي الراهن: التناقض بين الاقتصاد والبيئة

نشرت صحيفة الأهرام تحقيقا متميزا بتاريخ 11 يناير الجاري بعنوان: "تغير المناخ خطر يهدد سكان الأرض"، قام به الأستاذ مصطفى الغمري...وسبب تميز التحقيق هو أنه وضع بصورة مباشرة وواضحة ومحددة، كذلك بلغة بسيطة،

أمام القارئ، الخطر الذي يهدد حياة البشر بالفناء...والذي يتمثل في جسامة الاختلالات التي طالت المناخ وباتت تؤثر تأثيرا بالغا على البيئة وحياة الكائنات الحية التي تعيش على ظهر الكوكب...
ولقد استفاض التحقيق في رسم تفاصيل هذا الخطر على عديد المستويات لافتا النظر إلى الكثير من الإشكاليات التي تُمثل تهديدا لحياة الإنسان اليومية من جهة وتُخل بالتوازن البيئي الكوني الطبيعي من جهة أخرى...ما يؤدي ــ في المحصلة ــ إلى كوارث متشابكة: صحية، وطبيعية، وبيئية، وغذائية، واجتماعية، واقتصادية،...،إلخ...ونجح في جعل قضية المناخ حية أمام أعين القارئ/المواطن المصري...خاصة وأن الأمين العام للأمم المتحدة، قد ناشد، في صرخته التي أطلقها سبتمبر الماضي عبر فاعليات قمة المناخ بأن "على زعماء العالم إعلان حالة >> الطوارئ المناخية<<...
لقد اجتهد المحقق الصحفي في أن يوفر المعلومات العلمية الأساسية حول العلاقة بين تغير المناخ وإنهاك البيئة وأثر ذلك على حياة الشر. وفي هذا السياق، تناول التحقيق، ثلاثة عناوين في غاية الأهمية، أظن أنها تحتاج منا إلى مزيد من الحوار للتأصيل والتفصيل...ذلك لأنها تعد من: أولا: العناوين الأساسية في الأدبيات التي تقارب وتعالج العلاقة بين الإنسان والبيئة. وثانيا: الإشكاليات المثارة بحدة في ضوء الجائحة الفيروسية والرأسمالية الجائرة والتي تناولتها نصوصا في غاية الأهمية صدرت في الأيام الأولى من عام 2021...هذه العناوين/الإشكاليات هي:
أولا: علاقة النظام الاقتصادي العالمي ودور شركاته العملاقة الشبكية الاحتكارية العابرة للحدود والجنسيات في إفساد البيئة.
ثانيا: التوجه الأوروبي من أجل الشروع في الدخول إلى الزمن الأخضر...فلقد مس التحقيق هذه العناوين في إشارات لافتة فاتحا آفاقا للتواصل حولها...
ثالثا: مستقبل التنمية المستدامة في إطار العلاقة المتدهورة بين الإنسان والبيئة.
وفي حدود المساحة سوف نلقي الضوء على "أولا" في مقال اليوم الذي يتناول العلاقة بين الاقتصاد والبيئة (أو بين الإيكونوميا والإيكولوجيا وهو العنوان الذي استخدمه المفكر الكبير محمد سيد أحمد،1928 ــ 2006، ليقارب مبكرا القضية المثارة على أوسع نطاق اليوم) ...
في علاقة الاقتصاد بالبيئة؛ أشارت مقدمة التحقيق إلى أن "العنوان الأبرز هو تغير المناخ لكن النار التي تحت رماده هي التلوث وصناعات بتريليونات الدولارات حول العالم تضغط على زعماء العالم وتسخر من قضايا البيئة باستمرار"...إن ما أشار إليه التحقيق بصورة برقية هو لب الأزمة...فلقد أشرنا مرة إلى أن الحقيقة المرة ــ وبلا رتوش ــ لا يمكن اختزالها في مجرد: مسألة انبعاث غاز الكربون، وغيرها مما يدمر البيئة والإنسان... وإنما هي مسئولية النظام الرأسمالي وسياساته وخياراته الجشعة التي تؤدي إلى تدمير الطبيعة والكوكب ومواطن هذا الزمن...وهناك مجموعة من الأدبيات الرائدة في هذا المقام مثل كتابات: أولا: ناعومي كلاين، وثانيا: آن بيتي فور، وثالثا: جيريمي ريفكين، ورابعا: سوزان جورج؛...،إلخ، قد نبهت مبكرا من: كارثية إصرار الرأسمالية الاحتكارية الضخمة على اتباع خيارات اقتصادية من شأنها الدفع بالكوكب ومواطنيه إلى حافة الخطر...ومن ثم اعتبر هؤلاء أن العالم يعيش >>حالة طوارئ<<؛ ــ وهو ما طالب بإعلانه الأمين العام للأمم المتحدة لاحقا وورد ذكره في مقدمة التحقيق ــ وربطوا بين التقدم الصناعي ووضعية الخطورة الداهمة التي باتت تهدد الإنسان/المواطن والطبيعة والبيئة...كيف؟
حول هذه العلاقة تنذرنا أولا: الباحثة المعتبرة سوسان جورج في كتابها أنا والعولمة: عالم بديل ممكن ــ 2004؛ بأن التناقض بين الاقتصاد والبيئة؛ أو الإيكونوميا والإيكولوجيا؛ من العمق بحيث تتهدد حياتنا بجم من الأخطار إن تجاهلنا هذا التناقض. فقوى السوق تشكل علاقات اليوم وتمارس نوعا من السيادة المنحازة للشركات التي لا ترى إلا الربح ولو على حساب تزايد الأخطار على حياة المواطن/الإنسان وانتهاك البيئة وتدمير الطبيعة...أو بحسب التوصيف العلمي الدقيق إنها عملية دمج قسري للكوكب بقواعد السوق النيوليبرالية...
كما يفسر لنا ثانيا: ريفكين كيف حدث التناقض تاريخيا. فيقول: بفعل الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية ارتفعت درجة حرارة الجو عن معدلاتها الطبيعية التي كانت سائدة في المرحلة ما قبل الصناعية التي سبقت هاتين الثورتين الصناعيتين...ذلك لاعتماد الصناعات المختلفة على الموارد الطبيعية كمصادر للطاقة باعتبارها مباحة دون شروط أو قيود...وتبين، بالأخير، كيف أن الاعتماد المتواصل عليها نظرا لرخصها يحقق تعظيما مطردا للربح...والمحصلة بعد قرنين من الزمان أن تم استنزاف الطبيعة بشتى الطرق التي كان من ضمنها الحروب الممتدة المدمرة...ومن خلال صناعات كثيرة أضرت نضارة وبكارة البيئة ــ لسبب أو لآخر ــ نتج ما يلي: التصحر، واحتراق الغابات، وارتفاع مستوى المياه عن الحدود الطبيعية ما أدى إلى السيول والفيضانات، تزايد نسبة الانبعاثات الغازية الضارة التي تهدد حياة الإنسان والكائنات الطبيعة المتنوعة.، ارتفاع نسب التلوث، وتفشي الأمراض البكتيرية والفيروسية، موت غالبية الكائنات الحية التي كانت تعمل على حفظ التوازن البيئي وأمور أخرى،...،إلخ،(وقد استفاض التحقيق في هذا المجال)...
وفي محاولة لحل هذا التناقض التاريخي بين الإيكونوميا والإيكولوجيا؛ يدعو ريفكين، ونحن على مشارف الثورة الصناعية الرابعة التي تقوم على "الرقمنة" و "الأتمتة" إلى تأسيس ’’صفقة جديدة‘‘(باستلهام صيغة الحل التاريخي للاقتصادي كينز للأزمة الاقتصادية/المالية التي واجهت العالم في ثلاثينيات القرن الماضي) لعلاج ليس فقط أزمة الرأسمالية الراهنة وإنما لتجاوز ــ ما بات يُعرف في الأدبيات ــ برأسمالية الكوارث والدخول إلى الزمن الأخضر الذي يعتمد الاقتصاد الأخضر...وهو العنوان الثاني الذي نلقي عليه الضوء في مقال الأسبوع القادم...وهل يعد ذلك بديلا للتنمية المستدامة أم تطويرا نوعيا لها...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern