’’ هيجل ــــ 250‘‘

من أهم الأحداث التي مرت بالعالم في سنة الغلق 2020، ذكرى ميلاد الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فردريش هيجل (1770 ــ 1880). وبالرغم من الارتباكات التي أحدثتها هذه السنة على عديد الأصعدة إلا أن هذا لم يمنع أن تحتفي الأوساط الأكاديمية والثقافية بهذه الذكرى وأن تصنع منها حدثا مميزا ممتدا على مدى العامين: الفائت والجديد...


فعلى المستوى الاحتفالي الشعبي، تم تجديد المتحف الذي يحمل اسمه في مدينة شتوتجارت الألمانية بتكلفة تقترب من المليون دولار لتحديثه وفق التقنيات الرقمية الفائقة التقدم. وذلك لتيسير التعرف على حياة وأفكار وأعمال الفيلسوف الألماني الكبير هيجل بصورة سلسة عبر المنصات التفاعلية المتنوعة والوسائل المتعددة الوسائط. وبالفعل اُفتتح المتحف يوم ذكرى ميلاده في 27 أغسطس الماضي، بعد التجديدات، مجانا للجمهور.
أما على المستوى الفكري، فلقد شهدت الحياة الثقافية الألمانية والأوروبية حيوية فكرية وحوارية اتسمت بأمرين هما: أولا: استعادة تراث هيجل الفلسفي. ثانيا: مقاربة كثير من قضايا وإشكاليات حاضر الإنسانية اليوم في ضوء العقل الفلسفي الهيجلي مثل: الحرية في القرن الواحد والعشرين، مستقبل الحركة الاجتماعية، أحوال الدولة في ظل الأزمات العالمية، سطوة قوة الرأسمالية على إنسان اليوم، الوجود الإنساني في ظل الجائحة الفيروسية، العالم الرقمي، أي دين في عالم اليوم، أثر هيجل في التيارات الفلسفية الأخرى كذلك بالمدارس النفسية، حضور هيجل في العقل الفلسفي الراهن خاصة لدى التيار ما بعد ــ بعد ــ النقدي الراهن الذي تمثله الموجة الفلسفية الحالية في العالم والتي يمكن اعتبارها موجة رابعة من موجات النقد الفلسفي التي انطلقت مع مدرسة فرانكفورت في الثلث الأول من القرن العشرين والتي من أعلامها الحاليين: سلافوي جيجيك، وأكسيل هونيث، وغيرهما،...،إلخ...
في هذا السياق، نشير إلى أهم الإبداعات التي صدرت سنة 2020 لتواكب ’’ هيجل ــ 250‘‘؛ وذلك كما يلي: أولا: علم وجود القوة الهيجلي وبنية الهيمنة الاجتماعية للرأسمالية. ثانيا: فهم الحركة الاجتماعية من منظور هيجل ومفاهيم الحق والوعي والفعل في ضوء الحراك الإنساني/المواطني في المجتمع المدني العام. ثالثا: من ماركس إلى هيجل وبالعكس: الرأسمالية واليوتوبيا. رابعا: هيجل ومدرسة فرانكفورت. خامسا: هيجل، ماركس، نيتشه: عالم من ظلال. إضافة إلى ما سبق أصدرت دار نشر بالجريف ضمن إحدى سلاسلها العديدة المعتبرة: دليل بالجريف إلى هيجل (650 صفحة في السلسلة المتخصصة في المثالية الألمانية). كما أعادت أكسفورد نشر دليلها حول هيجل (1000صفحة). كذلك أنجز الفيلسوف الأشهر في العالم اليوم سلافوي جيجيك(وقد عرفنا به مبكرا في أكثر من مناسبة) عملين هامين بمناسبة هيجل ــ 250؛ فألف كتابا غاية في الأهمية بعنوان: هيجل عقل شبكي، كما حرر، آخرا، بعنوان: هيجل ولاكان (عالم النفس الفرنسي، 1901 ــ 1981) ومستقبل المادية.
والمتابع لجانب من هذه الحوارات من جهة، والقارئ للإصدارات من جهة أخرى سوف يدرك كيف أن الاحتفاء بشخصية في مكانة هيجل تفتح آفاقا فكرية رحبة لتناولها، واختبار أهم ما تتضمن من أطروحات لعلها تمنح الإنسانية إجابات على ما يشغلها من إشكاليات ومسائل... فبحسب امام عبد الفتاح امام (1934 ــ 2019) المفكر الذي نذر حياته لشرح وترجمة نصوص هيجل وتأسيس ما بات يُعرف في المكتبة العربية بالمكتبة الهيجلية، تقوم هذه المكانة ليس فقط لأنه: يشطر الفلسفة الغربية إلى حديثة ومعاصرة. أي كان بالفعل علامة فارقة في تاريخ الفكر الإنساني. وإنما، أيضا، بحسب إمام، لأن فلسفة هيجل: تمثل اكتمالا وتتويجا للفلسفة الأوروبية من ديكارت إلى كانط، وهي في نفس الوقت، تقف في مركز الصدارة من الفكر المعاصر بحيث أن كافة تيارات الفكر المعاصر تجد نفسها مطالبة إما بمتابعته وإما بمعارضته. كما لا يعود الأمر فقط إلى أنه الوريث الحقيقي للعقلانية ومطورها والدافع لها حتى حدودها القصوى في المنطق الجدلي ــ وهو الصياغة المنطقية الخالصة لهذه العقلانية ــ وتطبيقاته في مجالات الحياة والثقافة المختلفة: الحق، التاريخ، السياسة، الدين، الفن، الفلسفة،...،إلخ.
وتأكيدا لما سبق، لا زلت أذكر أول لقاء لي مع أفكار هيجل عبر المفكر المصري الكبير صاحب موسوعة مشكلات فلسفية (ثمانية أجزاء) الذي غادرنا مبكرا الدكتور زكريا إبراهيم (1924 ــ 1976) من خلال سلسلة كتبه المعنونة عبقريات فلسفية التي أفرد ثاني كتاب منها للتعريف بفكر هيجل، كيف أن هناك توافقا بين محبي فكر هيجل ومعارضيه على أنه عبقرية ضارعت عبقريات أفلاطون، وأرسطو، وديكارت،...،إلخ، كما أن هيجل يشابه الإسكندر ونابليون من حيث طموحهما السيادة على العالم وإن كان بالعقل وليس بالقوة...ومن ثم ادراك أهمية هيجل وما طرحه من نسق فلسفي متنوع لمقاربة العالم بما يحمل من كليات وأجزاء وموضوعات وتفاصيل...وبالرغم من أن قراءة هيجل تتطلب جهدا مضاعفا من القارئ إلا أنها تعد مهمة ضرورية لكل: أولا: مثقف؛ لأن هيجل كتب في السياسة والتاريخ والجمال والفن. كما أنه، بحسب ما جاء في مستهل معجم أكسفورد لمصطلحات هيجل (لميخائيل أنوود ــ أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد ــ وترجمة وتقديم وتعليق إمام عبد افتاح إمام، الصادر عن المشروع القومي للترجمة)؛ بحيرة عظمى تفرعت عنها جداول الفلسفة المعاصرة...وبالفعل فلم تزل هذه البحيرة جارية تتحدى العقل الإنساني الراهن. ولعل القارئ للكتب الصادرة في سنة 2020 حول فلسفة هيجل، التي أشرنا إليها، سوف يلحظ الاشتباك الفكري البديع بين الأفكار الهيجلية والإشكاليات الراهنة ومدى الثراء الفكري الذي سُطر في هذه الكتب والذي يعكس التدافع الجدلي بين أطروحات لازالت تحتفظ بالأصالة والإشراق تتحدى العقل الإنساني المعاصر في أن ينقب ويبحث ويجتهد في تقديم أطروحات جديدة لإنسان/مواطن الألفية الجديدة...تحية لهيجل، لن نقول في ذكرى، وإنما يوم ميلاده ال 250...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern