إعادة النظر...المراجعة الشاملة...التدقيق في حسابات المكسب والخسارة...مهام بدأت في ممارستها كثير من الأقطاب الدولية، والمؤسسات العالمية، والمنتديات السياسية، ومراكز البحث والتفكير، منذ أقل من العام، لتقييم جدول أعمال السياسة الدولية الراهن ووضع جدول بديل جديد...
وتنطلق هذه المهام من محاولة معالجة التداعيات التي لحقت بأوضاع العالم من جراء الزمن الترامبي وما سببه من ارتباكات للنظام العالمي، من جهة، سواء في فاعلية وأدوار: أولا: قواه العظمى، وثانيا: مؤسساته الدولية، وثالثا: اللاعبون السياسيون المتنوعون في الحلبة الكوكبية بمناطقها الجغرافية المختلفة...كما تنطلق، من جهة أخرى، جاهدة في تضميد ما أصاب البشرية من آثار الجائحة الفيروسية الكارثية على المستويات: الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية...ذلك لأنه من المحال أن تستمر المنظومة الدولية تتبع جدول أعمال عاجز عن الاستجابة لحالة الشلل الكونية التي تمتد لكثير من القطاعات الحيوية...
في هذا السياق، أطلق كثير من المعنيين بتطوير النظام الدولي، شفاهة وكتابة، "رؤى جديدة" تتجاوز أغلب ما أعتبره الكثيرون من المسلمات في الدائرة الدولية. من هذه الرؤى الجديدة نشير إلى المحاولات الجادة في دراسة وبحث ما يلي:
أولا: إعادة تعريف وتصنيف ماهية النظام العالمي/المجتمع الدولي. وما هي القوى التي تنتظم في إطارهما ودور كل منها...
ثانيا: ما الذي أوصل القوة العظمى ــ القديمة والمستجدة ــ إلى انتاج عالم لا يمكن التحكم في هشاشته وقابليته للمعطوبية ــ بحسب برتران بادي ــ ما أدى إلى نظام يتسم بعدم الاستقرار من جانب، وعدم قدرة على رؤية ما يطرأ من مستجدات من جانب أخر...
ثالثا: التحولات الجذرية التي تطال حركية المواطنين على المستوى القاعدي في كل بقاع العالم ــ دون استثناء ــ التي تندد بكل ما أنتجه النظام الدولي من مؤسسات ــ خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ــ في ظل إخفاقات متعاقبة لتحقيق وعود الرفاه والتنمية المستدامة. ومن ثم أثر هذه الحركية على الآماد: القصيرة والمتوسطة والبعيدة.
رابعا: مدى جدوى التنمية المستدامة التي تعكس رؤية تنموية تضامنية تتشارك فيها دول المنظومة الدولية وقوى المجتمع المدني العالمي دفاعا عن مواطنية مستدامة على جميع الأصعدة من جهة، وحمائية جادة وصلبة للبيئة والطبيعة والصحة العامة من جهة أخرى. كذلك دراسة كيفية تطويرها لتستجيب للتصدعات التي أحدثتها من جانب الجائحة الفيروسية، ومن جانب آخر الجائرة الرأسمالية ــ بطبعتها العولمية الأوليجاركية والشرسة تجاه المواطن والطبيعة والبيئة ــ في إعاقة عملية التنمية المستدامة ما أدى إلى وضعية لا مساواة غير مسبوقة في تاريخ البشرية بما بات يهدد الحياة الإنسانية في الصميم...فماذا يفيد "ركاب الدرجة الأولى" في سفينة تتعرض للغرق؛ إذا ما استعرنا أحد أهم الكتب التي تتناول دور الدول العظمى والنخب السياسية فيها في ما آل اليه العالم من تدهور(إصدار نهاية 2020 ويقع ضمن المراجعات حول جدول أعمال السياسة الدولية)...
خامسا: طبيعة الصراعات وأسبابها التي تنتشر في كثير من بقاع العالم للدرجة التي جعلت العالم يعاني ــ بحسب كثير من علماء السياسة المعاصرين ــ من تصدع نال من مقومات البناء الدولي. وهو التصدع الذي علينا الاعتراف به وإدراك خطورته على مستقبل توازن النظام الدولي ومدى صلابته على مقاومة التحديات. خاصة مع تراجع دور القوى العظمى وحلول قوى أدنى مكانها كذلك ما يمكن أن نطلق عليه الإرهاب الحربي.
في ضوء ما سبق، تتوالى الأطروحات حول مستقبل العالم وأي عالم يجب النضال من أجل تأسيسه. ومن ثم أي جدول أعمال لابد من الالتزام به. فلقد تبين للدارسين أنه في العقدين الأولين من الألفية الجديدة تعاقب على النظام الدولي ثلاثة جداول أعمال كما يلي: أولا: الجدول المحافظ الجديد في فترتي بوش. ثانيا: الجدول الليبرالي الجديد في عصر أوباما. ثالثا: الجدول القومي الاستعلائي الترامبي...وكلها بائت بالفشل ولم تفدها تراوحات القوة الأوروبية ولا التحالفات مع القوى الإقليمية...لذا تكبد العالم خسائر جسيمة...وتجددت كثير من المسائل التاريخية في كثير من المواضع الإقليمية التي ظنت دول النظام الدولي أنها حُسمت وحُلت...وهو ما يعني ضمنا مشروعية التساؤل عن مدى صلاحية ــ في العموم ــ النظام الدولي القائم وقدرته على الاستمرار بنفس المقومات التي تشكل في سياقها...
فأغلبية المعنيين باتت ترى أنه لم يعد من المفيد إعادة انتاج نظام بات موضع هذه النوعية من التساؤلات... وبات محلا للأزمات المزمنة والمتواصلة المنتجة للعنف والإرهاب...كذلك للانهيارات المؤسسية...والعجز عن الاستجابة للتحديات الاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية،...،إلخ...
الخلاصة، هناك اتفاق تام بين المعنيين ــ من خلال كثير من الأدبيات التي تراكمت في الأشهر الماضية ومطلع هذا العام وقد قدمنا بعضا منها خلال العام المنصرم ــ على ضرورة وضع جدول أعمال جديد في ضوء الدراسات والأبحاث السابق ذكرها لوضع جدول أعمال سياسة دولية جديدة...وهو عمل تاريخي في لحظة خطر كوكبية لا تُفرق بين دولة عضو في النظام الدولي وأخرى. ويؤكد ذلك نوعية البنود المطلوب دراستها والتي تمثل في مجملها حاجة لوضع تصور شامل للنظام الدولي يكون أكثر عدلا واستدامة...
وتحضرني عبارة بليغة لعالم الاجتماع السياسي الفرنسي البروفيسور برتران بادي (1950 ــ ) يقول: تعاني لعبة القوة من التأزم. لم يعد بإمكان النظام الدولي الخضوع لتحكم ناد صغير من الأوليغاركيين ــ الأقلية المالية ــ الذين يستبعدون الضعفاء، ويتنكرون لمتطلبات المجتمعات، ويتجاهلون المطالبات بالعدالة التي تنبثق من عالم جديد تتزايد فيه الجهات الفاعلة وتتنوع، وتكون أكثر تحسسا إزاء أي نهج تعسفي. وألا تكون مضادة لحركة التاريخ...