لماذا أثارت تصورات "ترامب" حيال قضايا وملفات السياسة الخارجية المختلفة الكثير من المقاومة والاعتراض والقليل من القبول والرضا؟...هذا هو السؤال الجوهري الذي يطرحه كتاب: "عقيدة ترامب والنظام الدولي البازغ، 414 صفحة ــ 2021"؛ الصادر قبل أيام من السنة الجديدة...
يجيب عن هذا السؤال، من 15 زاوية، أساتذة متخصصون في محاولة لتقييم ما يعرف في التقاليد والأدبيات السياسية الأمريكية "بعقيدة السياسة الخارجية الرئاسية" التي تعني مجموع المبادئ والتوجهات التي تحكم الخيارات التي ينحاز إليها/القرارات التي يتخذها الرئيس الأمريكي تجاه الإشكاليات المعلقة أو المستجدة فيما يتعلق بالشئون الخارجية. والتي يعكس حسمها مدى قدرة هذه العقيدة على تحقيق ما يمكن تحقيقه من المصالح القومية العليا للولايات المتحدة الأمريكية.
وتتشكل عقيدة السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي من محصلة كل من: البرنامج الانتخابي، وخطاباته وحواراته ومناظراته التي لزاما عليه أن يتمها وقت الحملة الرئاسية، وتصريحاته وخطاباته الإذاعية الدورية بعد انتخابه رئيسا...إضافة إلى ما سبق هناك وثيقتان متممتان بحكم الدستور والقانون هما: أولا: "وثيقة الأمن القومي"، وتصدر عن مجلس الأمن القومي وهيكليته التنظيمية الذي تأسس في الأربعينيات ومستشاره الذي تم إقرار تعيينه مطلع الخمسينيات. وتم تقنين إلزام الرئيس المنتخب بإعلانه ليعكس علنا رؤيته للأمن القومي. وثانيا: "خطاب حال الاتحاد"؛ وهو الخطاب الذي يلقيه الرئيس الأمريكي المنتخب أمام الاجتماع المشترك بين مجلسي الكونجرس: النواب والشيوخ (نهاية يناير/بداية فبراير من كل عام خلال الدورة الرئاسية باستثناء السنة الرئاسية الأولى بحسب القسم الثالث من المادة الثانية من الدستور الأمريكي). ويعد بمثابة تقرير دوري عن أحوال الأمة. ويقدم فيه الرئيس تقريرا وافيا عن مدى قدرته على تطبيق رؤيته (أو عقيدته) وسياساته التي اُتخذت في العام المنصرم والواجبة التنفيذ في مستقبل الأيام. ومن ثم تلقي الدعم الملائم من قبل أعضاء الكونجرس تشريعيا وماليا...ونشير إلى أن خطاب حال الاتحاد قد وصل إلى ذروة في عهد "أوباما" نظرا إلى أنه بات يفرد، إضافة لما تحقق من خطوط عريضة من الوعود الانتخابية، وما طبق من مبادئ في المجال الخارجي، مساحة من الخطاب لتحليل اقتصادي ــ اجتماعي متميز داخليا وخارجيا...في هذا السياق، ماذا عن ترامب؟
للحكم على الزمن الترامبي في هذا المقام، يركز محرر كتاب "عقيدة ترامب والنظام الدولي الآخذ في التشكل"، على ضرورة تتبع الكيفية التي يتم بها استخلاص عقيدة السياسة الخارجية. فلقد جرى العرف أن تستخلص هذه العقيدة من خلال ديناميكية معقدة تقوم على: أولا: جمع أكبر قدر ممكن من المعطيات التي تؤمن وضع رؤية ــ قدر الإمكان ــ شاملة لعقيدة الرئاسة. ثانيا: وتستند المعطيات على حقائق واقعية يتم تقييمها ودراستها من قبل المعنيين (أفرادا ومؤسسات) حيث يقومون بوضع التصورات والسيناريوهات العملية القابلة للتحقق. ثالثا: بحيث تصب في النهاية بما يتوافق مع المصالح العليا القومية للبلاد على اختلاف تياراتها...(يشار إلى أن وثيقة الأمن القومي التي اعتمدها ترامب قد تأخر إصدارها لأكثر من ستة أشهر بعد توليه الرئاسة واتسمت بالإنشائية والتعميم...وقد علقنا عليها حينها في هذا المكان يوليو 2017)...
وتشير إحدى دراسات الكتاب "صعوبة اعتبار ترامب ــ على وجه الخصوص ــ من الرؤساء القابلين للعمل بالمنهجية المتعارف عليها"...وذلك لاعتبارين مهمين هما: الأول: أن ترامب يميل لأن يكون شخصا تكتيكيا بامتياز وليس استراتيجيا. والشخصية التكتيكية يصعب أن تلتزم بصرامة بالمبادئ في صورتها المثالية المعلنة. وتصف إحدى الباحثات في الكتاب الشخصية التكتيكية بأنها "شخصية غير متوقعة" الأفعال أو ردود الفعل...الثاني: عدم احترام ترامب لقيمة المؤسسية في أداء وإنجاز الأعمال وهو ما تؤكده التغييرات الكثيرة المتكررة التي لحقت بدولاب العمل المرافق لترامب (ما يقرب من 60 استقالة للمستشارين والمعاونين) ...لذا لا يمكن القبول بفكرة توفر أن هناك "عقيدة للسياسة الخارجية" التزم بها ترامب...والسؤال الآن ما الذي كان يسير السياسة الخارجية الأمريكية على مدى السنوات الأربع السابقة؟
إذن، ما حَكْم السياسة الخارجية الأمريكية في الزمن الترامبي هو مجموعة من العناوين ذات الطبيعة "الشعاراتية" الواسعة التي لم يتم الشغل عليها فكريا ومؤسسيا. الأهم أن هذه العناوين كانت دائمة التعرض للتعديل بشكل مفاجئ دون: أولا: التنسيق مع الحلفاء ودراسة ما يمكن أن تسببه من آثار سلبية عليهم. ما مثل قطيعة نسبية مع النظام الليبرالي الدولي ومؤسساته الدولية. ودون ثانيا: الربط بين المواقف الحادة التي يتم اتخاذها في الشأن الخارجي على الداخل الأمريكي خاصة فيما يتعلق بالحرب التجارية مع الصين. ودون ثالثا: الالتزام بقواعد اللعب في المناطق الجغرافية المختلفة وبالتالي مراعاة اللاعبين الآخرين...والمحصلة هو ما آل إليه حال العالم في الزمن الترامبي من ارتباك واختلال...ذلك لأن لم يعط اهتماما جديا لمراكز الثقل المتنوعة في كل منطقة تدخل فيها. فجاءت تدخلاته غير تامة الرؤية. إما ناقصة أو متحيزة أو منسحبة...ظن ترامب أن طريقته يمكنها أن تغير منظومة السياسة الخارجية الأمريكية من خلال تفكير استراتيجي بديل للتفكير الاستراتيجي الذي ساد لعقود على أداءات الإدارات الامريكية المتعاقبة.
ويخلص الكتاب إلى أن ترامب كان واضحا في سعيه لإحداث تغيير جذري في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنه مارس ذلك بنزعة فردية لا مؤسسية من جهة. وبنزعة تتشح بالقومية الأمريكية في أشد صورها محافظة من جهة أخرى...والنزعتان الفردية والمحافظة تتناقضان ــ حتما ــ مع فكرة التجديد...وبالرغم من هذه الخلاصة إلى أن المحرر يلفت النظر إلى أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر كليا في السياسة الخارجية الأمريكية لتواكب جديد العالم...