شكسبير في أمريكا المنقسمة

مهلا، أصدقائي القراء، لا يوجد أي خطا في العنوان...إنه عنوان أحد أهم الكتب التي صدرت في سنة 2020 بحسب أكثر من تصنيف من التصنيفات التي تقوم بها الصفحات الثقافية المعتبرة لكبرى الصحف العالمية في نهاية كل عام...


مؤلف الكتاب هو المؤرخ الثقافي والناقد الأدبي "جوزيف شابيرو" والذي يلقي فيه الضوء على محطات تاريخية بارزة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام إلى العام 2017، وذلك من خلال أعمال "وليم شكسبير"(1564 ــ 1616) ...إنه كتاب مزيج من التاريخ والسياسة والأدب، يحاول فيه "شابيرو" أن يكتشف ما الذي يمكن أن تقوله النصوص الشكسبيرية من: ملاهي، ومآسي، وتاريخيات، عن ماضي ومستقبل أمريكا...
يقوم "شابيرو" من خلال أعمال "شكسبير" المتنوعة بقراءة الأحداث الأمريكية المتعاقبة عبر تاريخها. فيختار ثماني محطات تاريخية في التاريخ الأمريكي مثلت نقاط تحول فارقة للأمريكيين من جانب، وكاشفا عن جذور الانقسام الأمريكي المستمر حتى يومنا هذا من جانب آخر...الانقسام الذي بات جليا لكل متتبع للشأن الأمريكي نظرا لتجدده اللافت في "الزمن الترامبي"...هكذا أصبحت أمريكا: الحلم والمستقبل الموعود تطاردها كوابيس الماضي من انقسامات متعددة: طبقية، وعرقية، وجهوية، وسياسية...
يرصد "شابيرو"، عبر أزمنة متعاقبة، عددا من اللحظات التاريخية الحية لمجموعة من الرؤساء الأمريكيين والسياسيين والشخصيات الفاعلة في حياة أمريكا تلك الأزمنة، ويضاهيها بأبطال أعمال "شكسبير" المختلفة مستعيدا أهم النصوص التي وردت على لسان هؤلاء الأبطال والجدالات التي كان محورها "شكسبير"...وبين أحداث التاريخ الأمريكي المتأججة ــ منذ قبل منتصف القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ــ وبين المآسي الشخصية والمحن المجتمعية التي تجلت في هذا التاريخ نجد "شكسبير" حاضرا بقوة...وكيف لا وأعمال "شكسبير" تعد بحسب كاتبنا الكبير "ألفريد فرج" في كتابه "شكسبير: في زمانه وفي زماننا": "دنيا كاملة بما في الدنيا من حب وكراهية، ومن طموح وزهد، من كبر وتواضع، من فوز وخسارة، من شر وخير، من وفاء وغدر، من مشاعر متسامية ومشاعر متدنية، من غضب ورضا، من حكمة وحماقة، من سداد وشطط، من فكر نفسي واجتماعي (نضيف سياسي)، في الماضي والحاضر والمستقبل"...وفي حدود المساحة المتاحة سوف نقدم من المحطات الثمانية التي تناولها "شابيرو" المحطتين الأولى والأخيرة...
في المحطة الأولى/ الفصل الأول المعنون ’’زواج مختلط"؛ يعود بنا "شابيرو" إلى زمن الرئيس الأمريكي "جون كوينسي آدامز" (الرئيس رقم 6 من 1825 إلى 1829 وابن الرئيس الثاني لأمريكا جون آدامز 1797 ــ 1801)، الذي قام بإرسال رسالة لأحد أصدقائه(سنة 1835) يحدثه فيها عن "عطيل" أحد أبطال مسرحيات "شكسبير". وبعد ثلاثة شهور عرفت الرسالة طريقها إلى إحدى الصحف تحت عنوان "شخصية ديدمونة"(بحسب تعريب "مطران خليل مطران"، الذي شاع، للاسم الأصلي "ديزدمونة)"...تضمنت الرسالة نقدا شديدا "لديدمونة" لارتباطها غير الطبيعي ــ في نظره ــ "بعطيل"...ولكن لأنها ارتبطت بعطيل أسود اللون والذي جعلها تستحق أن تُقتل...ويعلق "شابيرو" بأن "آدامز" قد نال انتقادا كبيرا لأنه "أساء قراءة النص المسرحي تحت ضغط السياسات العرقية المرعبة السائدة في أمريكا سنة 1835"، وفي سياق المساواة المفقودة بين الأمريكيين: من السود والبيض، وفي الشمال والجنوب...وفي ضوء "نص عطيل" تداعت في ذهن السياسي الأمريكي الكثير من الإشكاليات المتعلقة بنتائج اقتران المختلفي اللون خاصة إذا ما كان الأبيض ثريا...ويتابع "شابيرو" ما تداعى على مدى سنوات من جراء نشر الرسالة مستعرضا الواقع الأمريكي المحتدم لتفكيك بنية العبودية المحكمة التي كانت شديدة الإفراط في حماية وتمييز البيض على حساب السود في كل شيء...ذلك لأنهم سود...فبالرغم من مساهمات السود في بناء أمريكا: الحلم، إلا أنهم عليهم الامتثال كعبيد والحيلولة دون ممارسة إنسانيتهم...تماما مثلما لم تشفع "الخدمات التي قام بها عطيل للدولة ...أن يروا حقيقة أفعاله وروحه النقية وطهارة ذمته...ما يبره عن حق"(اقتباس بتصرف من ترجمتي مطران خليل مطران وجبرا إبراهيم جبرا لنص عطيل)...
ومن المحطة الأولى، ينتقل "شابيرو" إلى المحطات التالية تحت عناوين درامية كما يلي: الثانية: قائمة القدر ــ 1845، الثالثة: حرب طبقية ــ 1849، الرابعة: اغتيال ــ 1865، الخامسة: هجرة ــ 1916، السادسة: زواج ــ 1948، السابعة: سفاح ــ 1998،...حتى يصل لخلاصة في المحطة الأخيرة...
المحطة الأخيرة/الخلاصة المعنونة: ’’ يسار ــ يمين‘‘؛ يؤرخ "شابيرو" للصراع الثقافي في الداخل الأمريكي: الأكاديمي، والثقافي، والفني، والسياسي، والاجتماعي من خلال عدد من التحليلات والوقائع. ويشير إلى أن شكسبير قد كان حاضرا في قلب هذه الحرب: كموضوع للجدل من جهة وكشاهد من خلال أعماله على مواقف أطراف هذه الحرب...فلقد نادى البعض، من حد إلى عدم تدريس "شكسبير" باعتباره عميلا للإمبريالية، وذكرا أبيضا...بينما احتفى البعض، من الحد المقابل، "بشكسبير" كونه أحد أعمدة تفوق الحضارة الغربية...إلا أنه ومع مرور الوقت، تسارع إيقاع التغيير في الداخل الأمريكي. ما أتاح إعادة اكتشاف إبداعات "شكسبير" التي كتبت قبل أربعة قرون لتتفاعل مع ما طرأ على الواقع الأمريكي من تغيرات. ومن ثم يعاد انتاج "شكسبير" برؤى وتصورات ومعالجات متنوعة ومتناقضة تقارب المجتمع الأمريكي المنقسم...عكست إبداعات "شكسبير" من خلال المعالجات المختلفة التفاعلات الأمريكية الراهنة بشخوصها الجدلية راصدة التنوع الذي تحول إلى انقسام في الزمن "الترامبي"؛ ما "يصعب معه توقع مستقبل أمريكا...ولكن من خلال "شكسبير" يمكن!"، هكذا يقول: "شابيرو"...
ويدلل شابيرو" على ذلك بعرض "يوليوس قيصر" الذي قُدم عام 2017، و"مأساة كريولانس"، وغيرهما، كيف جسدت عبر "قيصر وأنطونيو وأوكتافيوس وكاسيوس وبروتس ومجلس الأعيان والمثقفون والعوام، وكريولانس وتيطس وفيلوتوس،...إلخ"، واقع أمريكا وتفاعلاتها وتناقضاتها السياسية والاجتماعية وما فعله ساسة الزمن الترامبي بمواطنيهم...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern