"هارفي"...عالم جديد بعد الكوفيد

’’ الاستجابة الجماعية للمعضلة المشتركة لمواطني العالم‘‘؛...
في إطار تقديمنا لأهم الأفكار التي أثارت جدلا في ظل الجائرة الفيروسية ــ خلال شهور الغلق في 2020 ـــ وبلورت ابداعا فكريا متميزا في ظل المحنة التي المت بالعالم كله دون تمييز من جهة. وقدمت مثالا عمليا للمقاومة ضد الجائحة وتبعاتها المؤلمة من جهة ثانية. ومنحت الأمل لمواطني العالم بإمكانية تجاوز المأزق الكوكبي الجمعي

الذي واجهته البشرية في زمن "الكورونا" من جهة ثالثة...حيث قدمنا على مدى الأسابيع الماضية: أولا: "توماس بيكيتي" وأفكاره حول ضرورة العدالة والمساواة. وثانيا: "جي ستاندينج" وأفكاره حول ضرورة وكيفية مواجهة الأخطار الثمانية العملاقة التي تهدد العالم. كذلك معنى وضرورة تأمين "الدخل اللائق" للمواطنين. وثالثا: "سلافوي جيجيك" وأفكاره الرافضة لاستمرار "تسليع الإنسان/المواطن" وتحذيره من الانعطاف الخاطئ بالإصرار على استمرارية سياسات بربرية قد تتخذ وجها إنسانيا تحت ضغط الورطة الاقتصادية العالمية الراهنة. ودعوته لبناء إنسانية جديدة...ورابعا: دافيد هارفي"الذي بدأنا في التعرف على أفكاره في مقال الأسبوع الماضي حول طرحه لرؤية اقتصادية راديكالية لزمن ما بعد الكورونا...
ها نحن نواصل تقديم فكر المنظر الكبير "دافيد هارفي" من خلال كتابه الصادر مؤخرا: "مواقف فكرية تاريخية لأحد مناهضي الرأسمالية"؛ الصادر في نهاية صيف 2020...قدم "هارفي" في أقل من 100 صفحة خلاصة محكمة لطبيعة اللحظة التاريخية: "المعضلة" وكيفية مواجهتها...ففي البداية، يشير "هارفي" إلى أن الجائحة الفيروسية قد كشفت الغطاء، كليا، عن الحالة التي وصلت إليها مجتمعاتنا المعاصرة من حيث:
أولا: التداعي المتنامي للبنى المؤسسية المختلفة. ثانيا: الاتساع المتزايد: المُخيف والخطر، للهوة بين القلة الثروية والأغلبية من المواطنين. ثالثا: غلبة السلوكيات البشعة بين المواطنين والتي تتجلى في التعبيرات العنصرية الفجة والرهاب المرضي من الأجانب والإزدراءات المتبادلة بين الثقافات والأديان، والخوف من المجهول، والشعور باللايقين،...،إلخ. رابعا: الكوارث المتعاقبة الناجمة عن الشراسة المتناهية للطبعة السائدة من الرأسمالية الراهنة: اقتصادية، وبيئية...ومن ثم باتت أهمية التحرر من عبء ما آلت إليه أوضاع العالم وأنه لا مناص من بناء مجتمع جديد يتمسك بما يلي:
أولا: مغايرا للمجتمع القديم؛ وينطلق "هارفي" من حقيقة "تصدع وتداعي المجتمع القديم" بقيمه وممارساته وسلوكياته وعلاقاته ومؤسساته وسياساته. بسبب ما نخر فيه من سوس على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية جعلته قبيحا للغاية بفعل حلم الليبرالية الجديدة الذي تم الترويج له باعتباره الحل الناجع ونهاية التاريخ وتبين أنه كارثة ليست اقتصادية فقط وإنما قيمية وحياتية.
ثانيا: غير "مرتهن لرأس المال"؛ يبلور لنا "هارفي" خلاصة أفكاره القيمة عبر ما أثبتته الجائحة الفيروسية. حيث يقدم أطروحة متماسكة ومتكاملة مفادها أن: الليبرالية الجديدة لا تراكم الثروة فقط بالمعنى التاريخي الكلاسيكي الذي يتم عبر حق الملكية والانخراط في عملية اقتصادية محضة. وإنما باتت تمارس نوعا من: أولا: "الاستيلاء" على حياة الإنسان/المواطن بالكامل من خلال وتوجيهها بما يصب في جعله مرتهنا لرأس المال ليس في مجال العمل فقط وإنما في مجالات السكن، وبنود المعيشة المختلفة، والقيم الخادمة للارتهان،...،إلخ. وصارت هناك استحالة كما تقول العبارة الذائعة في الأدبيات الاقتصادية: "للاحتفاظ ببطاقات الائتمان في المحافظ"...
ثالثا: تحرير التجدد التكنولوجي المطرد من الاستغلال الضار؛ ولهذه النقطة أهميتها القصوى ذلك لأن الاستثمار الكبير والمطرد في مجال التقنيات عالية الكفاءة ــ وهو أمر يمكن اعتباره إيجابيا في ذاته ــ إلا أنه يمكن أن يكون كارثيا من جانب آخر وذلك بفعل الاحتكارات، وعدم قدرة كثير من الشركات القائمة بالفعل على مواكبة الاطراد المتنامي في مجالات: الإلكترونيات، والاتصالات، والصناعات الدوائية المعالجة للأمراض الخطيرة والجوائح الميكروبية، والهندسة البيولوجية. ومن ثم تتحول التقنيات الجديدة "عملا تجاريا" محضا.
وفي النهاية يصير الإنسان/المواطن "مُلحقا/تابعا" لجديد الابتكار بكل ما لهذا المصير من زوال لجوهر ما يميز الإنسان/المواطن من روح وعقل مبدع يسترشد بالذكاء الطبيعي لا الاصطناعي...أي فقدان الإنسان/المواطن لقوة ذاتية كانت تميزه في مواجهته ضد بطش وشراسة الرأسمالية الجائرة.
ويخلص "هارفي" إلى أهمية ابتكار فعل جمعي إنساني/مواطني عابر للمجتمعات والجنسيات قادر على تجاوز جائرة "الكوفيد ــ 19" ــ كفيروس محض فقط ــ وإنما بمواجهة شاملة لمعضلة السياق العالمي المأزوم...ولنتبر هذه المعضلة فرصة لإيجاد بديل اقتصادي اجتماعي فكري إنساني جديد...
يقدم لنا "هارفي" تحليلا وافيا ودقيقا للبنى المؤسسية المسئولة عما وصلت إليه أحوال الإنسانية وأوضاع العالم. وإذا كان "هارفي" ــ بحسب ما يقول أحد أهم علماء الاجتماع المعاصرين "ريتشارد سينيت" ـــ قد كرس جل وقته على مدى عقود محللا تداعيات الرأسمالية الشرسة على مواطني العالم، دون استثناء، وناقدا تلك القناعة الهادئة الراضية التي تقبل بما هو قائم وتعتقد أنه الأفضل". ها هو يواصل مهمته في نقد السياق الذي تعيشه مجتمعات العالم والنظام الاقتصادي العالمي السائد ويحلل بدقة بالغة ما سببه من اختلالات في حياة العالم "ويبعث الأمل في نفس المواطن بإمكانية ــ ليس تعافي العالم من الجائرة الرأسمالية والجائحة الفيروسية فقط ــ وإنما بالتأسيس لعالم جديد...أو ما يمكن أن نطلق عليه "الحق في عالم جديد"...
ويعد "هارفي" بحسب "دليل روتليدج للماركسية وما بعد الماركسية؛ الصادر منذ أيام من ضمن باكورة إصدارات 2021 في أكثر من 1000صفحة ــ أحد المفكرين المجددين شأنه شأن "روزا لوكسمبورج"، و"لوكاش" و"جرامشي" و"هوبسباوم" وغيرهم.(يشار إلى أن مفكرنا المصري العالمي سمير أمين أحد المدرجين ضمن المجددين في هذا المجلد المعتبر).
هكذا يواصل "دافيد هارفي" رحلته الفكرية حول التاريخ والاقتصاد والجغرافية والأنثروبولوجيا والسياسة، صانعا عبر اجتهاداته النظرية اللامعة رؤية مستقبلية بديلة وعادلة توجه المؤسسات والسياسات للعمل لما فيه صالح الإنسان/المواطن...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern