"العجز التام هو ما أوصلتنا إليه الليبرالية الجديدة على مدى أربعين سنة من تطبيقها...وهو ما تجلى في مواجهتها للجائحة الفيروسية التي تأكد إنها ليست مجرد أزمة صحية بل تمثل انعكاسا للأزمة الداخلية المحتقنة للنيو ليبرالية "
كلمات جاءت على لسان المنظر الكبير "دافيد هارفي"(85 عاما) في مقاربته للجائحة الفيروسية...و"دافيد هارفي" أحد أهم المفكرين المعاصرين. وقد سبق لنا تقديمه للقارئ الكريم منذ خمسة أعوام في هذا المكان من خلال تقديمنا لكتابه "17 تناقضا ونهاية الرأسمالية" في عدة حلقات...وها هو يعود الجغرافي والأنثروبولوجي والاجتماعي والسياسي الكبير "هارفي"، الذي يشغل موقع أستاذ علم الإنسان بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك، ليصدر كتابا هاما عنوانه: "مواقف فكرية تاريخية لأحد مناهضي الرأسمالية"؛ مقاربا فيه 19 إشكالية يمر بها العالم اليوم في أقل من 100 صفحة مبلورا رؤية فكرية شاملة تجاه العديد من القضايا، من ضمنها "الكوفيد ــ 19، داعيا إلى ضرورة الاستجابة الجماعية لتبني رؤية جديدة وسياسات مغايرة لإدارة العالم...إنه مشروع فكري آخر ينضم لمجموعة ــ ما أطلقت عليه ــ "المشروعات الفكرية المانحة الأمل" لمواطني الكوكب...
فالعالم، وبحسب "هارفي" في الفصل الأول، يعاني "اضطرابا" ممتدا شاملا لم يستثن دولة من الدول. وهو ما تجسده والاحتجاجات الممتدة من سانتياجو إلى بيروت مرورا بهونج كونج وطهران والجزائر والهند وباريس والولايات المتحدة الأمريكية". نعم تختلف درجة الاحتجاج فيما بين هذه الدول، إلى أنها في المجمل تعكس أن هناك خللا ما ــ بدرجات متفاوتة ــ في البنى المؤسسية المختلفة في دول العالم على اختلافها نتج عنها عدم الرضا المواطني العام. وقد آن أوان أن تجعل المنظومة الدولية مهمتها الأولى لتعريف وتحديد ماهية طبيعة الأزمة الكامنة في مجتمعنا الراهن؟ وكيف يمكن إحداث تحولا آمنا لمجتمعاتنا وفق بديل أكثر عدلا؟...أخذا في الاعتبار أن يكون هدفنا النهائي هو إنجاز تغيير جذري حقيقي في حياة مواطني الكوكب...ومن خلال عديد المقارنات بين المزايا التي يحظى بها ال10% الأعلى وبين ال10% الأدنى في الجسم الاجتماعي من حيث: العوائد الدورية، والمزايا الضريبية والتأمينية والخدمية. وفي هذا المقام يدلل على ما سبق من خلال أمثلة عملية لشركات متنوعة تعمل في مجالات مختلفة مثل: البترول، السيارات وغيرهما. وبالنتيجة اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وبينهما تراجعت أحوال الطبقة الوسطى.
انطلاقا مما سبق، يقوم "هارفي" باستعراض موجز لتاريخ الليبرالية الجديدة ويوضح نشأتها ومسارها وتداعياتها. ويذكر بأن الشركات متعددة الجنسية (طبقة "الشركاتية" بحسب تعبيره) ونتيجة ما يهددها من قوانين ولوائح تحمي المستهلكين من المواطنين، والبيئة من جهة. والعاملون لديها من حيث أمنهم الصحي والاجتماعي من جهة أخرى. فإنها سعت لتغتنم أكبر قدر من التراكم، ومن ثم الثروة والقوة. وانتهى هذا السعي المحموم بالكوكب كله ــ دون استثناء ــ إلى نتائج كارثية مما دفع البعض إلى وصف الليبرالية الجديدة "برأسمالية الكوارث"؛ وذلك لما سببته وتسببه ــ على مدى أربعة عقود ــ من أخطار محدقة للمواطنين والبيئة والطبيعة...وينبه "هارفي" في كتابه إلى عدة أمور اقتصادية بالغة الأهمية منها:
أولا: توظيف الابتكار العلمي ــ من قبل الشركات ــ لخلق أسواق جديدة بدلا من أن يستجيب لطلب سوق محددة في تطوير تقنياتها. أي أن التجدد التقني بات عملا تجاريا يثير لعاب المواطنين من المستهلكين والمنتجين على السواء...ورويدا رويدا تصبح العملية الاقتصادية قائمة على الآلة وما سيترتب عليها من تطور في مجال الذكاء الاصطناعي. وهي العملية التي سيدفع تكلفتها النهائية الإنسان/المواطن على جميع الأصعدة: العملية، والحياتية، والفكرية، والروحية...ويستند "هارفي" لمقولة ماركسية كلاسيكية وردت في أدبيات "كارل ماركس" خلاصتها ما يلي: "متى تحولت عملية الإنتاج من عملية بسيطة للعمل تُخضِعُ وتُسخر قوى الطبيعة لخدمة الحاجات البشرية إلى عملية علمية...يكون المستفيد هو رأس المال الثابت (للقلة) بدلا من العمل الحي(القوة البشرية المنخرطة في العملية الإنتاجية بمستوياتها المختلفة)…وهكذا يصبح التجدد التكنولوجي غنيمة لتراكم مقدرات رأس المال أكثر من كونه لقدرات العمل"...بلغة أخرى تصبح العلاقة العملية بين صاحب المال وبين الآلة مباشرة التي تصبح تحت إمرته مباشرة. وهنا سوف ترتهن البشرية لنوعية ودرجة وعي صاحب المال وكيف يرى الواقع والعالم وما هو مطلوب أو غي مطلوب للإنسان. إنها هيمنة جديدة غاية في التعقيد.
ثانيا: أثر تداعيات الجائحة الفيروسية على الديناميكية العالمية لتراكم رأس المال العالمي. فأي توقف أو خلل لاستمرارية تدفقه سيؤدي إلى تداعيات كارثية على النظام الاقتصاد العالمي. وفي هذا السياق، يلفت "هارفي" النظر إلى الأهمية البارزة للاقتصاد الصيني المنتشر في جميع أنحاء العالم عبر العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع كثير من دول العالم. كذلك من خلال الشراكة العميقة مع كثير من الشركات العملاقة العابرة للحدود والجنسيات. وبالتالي، فإن أية إصابة سوف تلحق بالاقتصاد الصيني الضخم إنما تعني إلحاق إصابات بالغة للدول والشركات التي ترتبط به.
الخلاصة، أن النموذج الاقتصادي السائد، في حقيقة الأمر، لا يقوم بخدمة الكتلة السكانية الغالبة/الأكثرية المواطنية بقدر ما يخدم القلة الثروية من خلال شركات غير محددة الجنسية تقوم قاعدة مالية غير مرئية دائمة الحركة عبر التحويلات الرقمية والتوسع المبالغ فيه في عرض النقود وزيادة الديون...وهنا يطرح "هارفي" سؤالا غاية في الدقة هو: " كيف للنموذج الاقتصادي السائد الذي سبب اختلالات معقدة أن يحتوي ــ هو نفسه ــ ما بات خارج السيطرة؟
ونتابع ــ في مقالنا القادم ــ الإجابة من خلال أطروحة "دافيد هارفي" المركزة تفاصيل الرؤية المطلوب تبنيها والسياسات التي علينا من خلال مواجهة جماعية أن نأخذ بها...أو ما أطلق عليه: "الاستجابة الجمعية للأزمة الكوكبية المشتركة"...