!جيجيك" يحذر العالم من الانعطاف الخاطئ"

"علينا الحذر من الانعطاف الخاطئ؛ فالمراجعة التاريخية لكثير من المعالجات التي واجهت بها البشرية، ما ألم بها من ملمات وتعرضت له من كوارث، قد أدى إلى انعطافات خاطئة في مسيرتها...لذا فلنحذر الاستجابات الخاطئة‘‘...


هذه خلاصة تحذيرية لمجمل أفكار الفيلسوف السلوفيني المعاصر "سلافوي جيجيك" (71 عاما)، الذي يعد أحد أهم فلاسفة القرن الواحد والعشرين (وقد عرفنا عنه مبكرا). ذلك لأنه استطاع أن يخرج بأفكاره الثرية والقيمة من حصار أروقة الجدل الفلسفي الأكاديمية المنفصلة عن الواقع إلى عمق حياة الناس وتفاعلاتهم المجتمعية وخياراتهم الحياتية ومدى استجاباتهم ورفضهم للأبنية المؤسسية القائمة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والدينية. لذا اكتسب شعبية كبيرة لدى الجمهور العادي وخاصة الشباب. ما دفعهم لأن يطلقوا عليه "نجم الروك الأكاديمي"...والأهم "أخطر الفلاسفة المعاصرين"...
وخلال سنة "الغلق" الحالية التي فُرضت على كل دول العالم، دون استثناء وإن بدرجات متفاوتة، لم يتوقف "جيجيك" عن التعبير عن آرائه حول خطورة اللحظة التاريخية على كل من: الإنسان، والطبيعة، والبيئة، والنظام العالمي بأبعاده الاقتصادية والسياسية والثقافية...وهي الآراء التي كثيرا ما نبه إليه مبكرا في كثير من المناسبات قبل سنوات من هجمة الجائحة الفيروسية... ومن هنا تأتي أهمية "جيجيك" في رؤيوية مشروعه الفلسفي والفكري...في هذا الإطار، نقدم كتاب "جيجيك": "الوباء الذي هز العالم ــ الصادر نهاية صيف 2020"...الذي أضعه ــ على صغر عدد صفحاته ــ ضمن المشروعات الفكرية اللامعة التي تعاطت مع تداعيات الجائحة ومنحت أملا لإنساننا/مواطننا المعاصر...وكنا عرضنا من قبل لمشروعي كل من: أولا: الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي" حول ضرورة تحقيق العدالة. وثانيا: السوسيولوجي البريطاني "جي ستاندينيج" عن خوض المعركة ضد الأخطار الثمانية العملاقة المحدقة بإنسان/مواطن اليوم...
في أقل من 100 صفحة يقوم "جيجيك" بعملية مركبة عناصرها: توصيف، وتشخيص، وتشريح، ومن ثم، تحليل طبيعة تفاعلات المشهد الحالي وما يجب أن يقوم به كل عنصر من العناصر العالقة في المتاهة الراهنة و"المنهكة من قبلها طول الوقت"...يقول "جيجيك" بأننا: "واقعون في أسر أزمة ثلاثية الأبعاد: أولها طبي، وثانيها: اقتصادي، وثالثها: نفسي"...وسوف ينجم عن هذه الأزمة المركبة إلحاق "تفكيك" جذري لكثير من المنظومات الحياتية التي دأب البشر على تسييرها على مدى زمني طويل. إنها المنظومات التي اعتبرها البعض غير قابلة للمساس مثل: أولا: أنماط الاستهلاك. وثانيا: أنماط العلاقات والمشاعر والقناعات. وثالثا: آليات السوق. ورابعا: انتهاك البيئة. وخامسا: تشكل وعي زائف يبرر المنظومات السائدة وربما يضفي عليها القداسة. وسادسا: بلورة ثقافة غير أصيلة غرائزية المنحى. وسابعا: قبول الإنسان، ولزمن، الحياة في ظل ما يطلق عليه "جيجيك" "صنمية السلعة"(وهي فكرة أساسية لديه)، حيث "حلت الأشياء أو السلع محل البشر...وعليه استُبدلت صنمية العلاقات بين البشر بصنمية العلاقات بين الأشياء"...وهي حالة تُخفي مدى بؤس الإنسان المعاصر حيث تتوارى عبوديته الجديدة للسلعة والأشياء تحت مسميات المتعة والحرية والإفراط في اللذة...ومن ثم تأتي الكارثة وتكشف عن مدى فداحة السياق التاريخي الراهن الذي يعيشه إنسان/مواطن اليوم في جميع الدول: المتقدمة وما دونها...
إن ما تحتاجه البشرية اليوم، يقول "جيجيك"، ليست فقط سياسات رعاية صحية، أو تصويبات سطحية للنظام الاقتصادي العالمي، أو سياسات بيئية تقنية، وإنما رؤية شاملة تربط بين كل ما سبق في آن واحد". رؤية تؤمن حلولا ناجعة لإنسان/مواطن اليوم تحرره من أسر: نظام اقتصادي جائر، وواقع اجتماعي صحي وبيئي جاحف...ما يضمن ديمومة الإنسانية...فمن ضمن ما أثبتته هذه التجربة الأليمة يشير "جيجيك" إلى ما يلي:
أولا: ارتباك المشهد المجتمعي بين اتجاهين هما: الأول: يضغط في اتجاه التغافل عن أضرار الجائحة الفيروسية وضرورة استمرار الحياة ويمثله فريقان: أحدهما من أجل أن تستمر الماكينة الاقتصادية في العمل حيث لا ينبغي لها أن تتوقف حتى أي ظرف وترك المجتمع لاكتساب "مناعة القطيع" مثلما عبر أحد القياديين الأوروبيين مبكرا في وقت من الأوقات. والثاني سعيا لتوفير الحد الأدنى من تكاليف الحياة...ويختلف، عن الاتجاه الأول بفريقيه، الاتجاه الثاني الساعي إلى: احترام الحياة الإنسانية من خلال الحماية الصحية المزدوجة للذات من جانب وللآخرين من جانب آخر. وهي قيمة يجب أن نثمنها...
ثانيا: محاولة المنظومة السياسية تطبيق سياسات صحية تقنية محضة دون محاولة إعمال مراجعة شاملة للسياسات الصحية بعناصرها المختلفة أخذا في الاعتبار تلك المرتبطة بالطبيعة والبيئة من جهة. وبمعزل عن المنظومة الاقتصادية وسياساتها من جهة أخرى...ويذكر هنا "جيجيك" إلى أنه ثبت مدى العلاقة الوثيقة بين المنظومات الثلاث...ففي الصين وإبان شهري الحجر الأولين تبين أن "انخفاض نسبة التلوث التي يسببها النمط الإنتاجي المُتبع يمكنها أن تنقذ حياة 4000 طفلا دون الخامسة وما يقرب من 73000 مواطنا فوق السبعين"...ما يؤكد العلاقة الوثيقة بين: الاقتصاد والصحة والبيئة...
ثالثا: العودة إلى، ما أسماه، "جيجيك": "البربرية ذات الوجه الإنساني"؛ والتي تحاول نظرا لضراوة الجائحة الفيروسية واحتمالية استمرارها لمدى غير معروف تبرير التخلي عن رعاية المسنين، والغير لائقين صحيا لصالح استمرار الحياة للباقين. وهو ما عبرت عنه إحدى الدول الأوروبية في وقت من الأوقات بأنها ستتخلى عن المسنين الذين تزيد أعمارهم عن ال 80 عاما. وهو ما يعيد إلى الأذهان منطق "البقاء للأصلح"...أو ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة الغلبة/الغابة...
وبعد، يخلص "جيجيك"ــ الذي أُدرج في قائمة أفضل 50 مفكرا عالميا عام 2012، ويشغل موقع المدير الدولي لمعهد بيركبيك للعلوم الإنسانية بجامعة لندن ـــ إلى أنها لحظة اختيار إنساني بين التفكير خارج هيمنة منظومة السوق والمضاربات ومنطق الربح المطلق والاستهلاك أو "السلعنة" وما ستحتاجه من بربرية لاستمرار هيمنتها...ما سوف يمثل انعطافا خاطئا... وبين التمهيد لبناء إنسانية جديدة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern