راجي عنايت: ادراك التحول واستشراف المستقبل

رحل عنا هذا الأسبوع "راجي عنايت" أحد أهم العقول المصرية التي بشرت مبكرا بالعالم الجديد، وبتحولاته، وبملامحه المتوقعة...فيما عُرف بالدراسات المستقبلية...
كرس "راجي عنايت"(1929 ــ 2020)، جل وقته منذ منتصف الثمانينيات للتنبيه إلى أن العالم بصدد تحولات جذرية تتجاوز المجتمعين الزراعي والصناعي بقيمهما ونتاجاتهما.

فأنكب على إدراك طبيعة هذه التحولات نوعا وكما وأثرها على البشرية. ومن ثم اكتشاف صورة المستقبل المتوقع الذي يمثل الأساس للحقل المعرفي المُستجد الذي بات يُعرف بعلم "استشراف المستقبل"...ونظرا لأن التحولات جذرية أي أنها سوف تختلف كليا عما عرفته البشرية من قبل، فينبغي اكتشاف ملامح المستقبل الذي سيحمل قيما وممارسات وديناميكيات وتقنيات جديدة تماما...ومن كلماته المبكرة في هذا المقام: "قبل أن يدهمنا المستقبل، فيفقدنا توازننا...قبل أن يتضاعف أثر صدمة المستقبل علينا، فنفقد الصلة بالواقع، والقدرة على التعامل معه...قبل أن تتبدد قدرتنا على التمييز بين الحقائق الثابتة وشطحات الأحلام...قبل أن يحث هذا، علينا أن نلتمس، وبصفة دائمة، معالم التطور القادم في مختلف نواحي الحياة، ونتهيأ لاستقباله"...
أدرك "عنايت" أنه لا يمكن أن نواجه المستقبل الذي سوف تطاله ثورات مركبة ومتشابكة: علمية شاملة، وتكنولوجية، ومعلوماتية، وبيولوجية، واتصالية، ورقمية، وتقنية تتسم بذكاء اصطناعي معقد،...،إلخ، بقيم وأفكار وآليات المجتمعين الزراعي والصناعي ذات التطور الخطي. ذلك لأن "الغدية"؛ أو عالم الغد (بحسب المفكر المغربي الحبابي) لن ينهج تطورا خطيا وإنما تطورا شبكيا غاية في التعقيد...لذا أخذ "عنايت" على عاتقه مهمة أن نعرف "كيف نتعود التنازل عما استقر عليه يقيننا بالنسبة لكثير من المسائل الأساسية، التي لم نكن لنتصور يوما أن يظهر ما ينسخها"...وفي أكثر من عمل له أكد على أن التغيير سوف يلحق بكل المجالات وليس مجال دون آخر...
ومن أهم ما لفت النظر إليه "عنايت" هو أن التحول ــ الراهن ــ لن يكون لحظة زمنية تعقبها فترة استقرار وسكون ممتدة كما كان الحال مع الثورة الزراعية التي أتت بالمجتمع الزراعي الذي ظل بقيمه وعلاقاته وتقنياته مستمرا كما هو لقرون، وكما فعلت الثورة الصناعية واستمر المجتمع الصناعي مستمرا وإن كان لوقت أقل،...وإنما لحظة التحول الحالية ما هي إلا باكورة لسلسلة تحولات لا نهائية. إنها لحظة دائمة التحول ومن ثم ستكون دائمة التغيير في حياة الإنسان المعاصر.
ورصد من ضمن ــ ما رصد مبكرا جدا في نهاية الثمانينيات ــ من تحولات نشير إلى الانتقال: من الموارد غير المتجددة إلى التكنولوجيا المتطورة في استنباط طاقة وخامات متجددة، ومن تلويث إلى حماية البيئة من التلوث، ومن الصناعات التقليدية إلى صناعة المعلومات والخدمات، ومن العمالة العضلية إلى العمالة العقلية، ومن التخطيط التقليدي إلى التخطيط المستدام، ومن المركزية إلى اللامركزية، ومن النمطية إلى التنوع، ومن الخيارين والمسارين إلى الخيارات والمسارات المتعددة والمتشابكة، ومن التخصص الشديد إلى الإدراك الشامل وتوقع استحداث تخصصات مستجدة مركبة، ومن التنظيم الهرمي إلى التنظيمات الشبكية، ومن الديمقراطية التمثيلية إلى التشاركية،...،إلخ...
لم يكتف "عنايت" بالعمل على ’’ إدراك التحول‘‘ و’’ استشراف المستقبل‘‘؛ وإنما عمل على أن يحث النخبة والمواطن العادي بهما واجتهد ــ في إصرار ــ أن تجد أفكاره طريقها للتحول إلى استراتيجية يمكن تبنيها على جميع الأصعدة. لذا وضع في وقت من الأوقات ــ إذا لم تخني الذاكرة ــ دليلا عنوانه: "دليل المفكر للخروج من الأزمة"...حيث أكد أنه لا مناص من الانخراط في المستقبل لنكون جزءا شريكا في العالم الجديد...ما يعني ضرورة تبني رؤية مستقبلية...ذلك لأن الرؤية المستقبلية هي مصدر الطاقة لأي تقدم تاريخي له قيمة...
الرؤية المستقبلية هي التي تمكننا من الانطلاق وذلك من خلال أمرين هما: التفكير الناقد والتفكير الابتكاري؛...وهذا يستلزم معرفة الأوضاع الحالية في مصر بدقة...ورسم خريطة حضارية لشعب مصر...توضح إلى أي مدى ما زلنا نمضي في حياتنا وفق عقلية وقيم عصر الزراعة، وإلى أي مدى تشيع قيم عصر الصناعة...وعما إذا كنا قد بدأنا العبور إلى قيم عصر المعلومات، أم لا...في هذا المقام يكون دليلنا هو كيف نفهم ونعرف ونستخدم المفردات والمصطلحات...هل بمعانيها القديمة، دون الاتفاق على معانيها الجديدة في ظل المجتمع الجديد.
نجح "عنايت" في أن يلمس التحولات والسمات التي سوف تلحق (لحقت بالفعل لاحقا) بالسياقات: أولا: الخدمية من تعليم وصحة، وثانيا: المؤسسية: الإدارية العامة والخاصة، والسياسية التمثيلية والمدنية المجتمعية. ثالثا: القيمية والتوجيهية: الإعلامية بتطبيقاتها المتعددة، والثقافية والإبداعية المتنوعة، والدينية بتأويلاتها وطقوسها المختلف. رابعا: العلمية والمعرفية. خامسا: المادية: الاقتصادية، والاجتماعية،...،إلخ...
وعليه أطلق، "مطلع التسعينيات"، صرخته الشهيرة: "أفيقوا...يرحمكم الله!"...
لم تكن صرخته صرخة ضائعة في فضاء البرية...ذلك لأن الأستاذ "راجي عنايت" كان متفائلا بالمستقبل وبالأجيال الجديدة التي سوف تكون القاعدة المادية والعقلية للعالم الجديد...وهم الذين عرفوا لاحقا بشباب "الألفية"...إضافة إلى توحده التام بالقضية، فعاش من أجلها، وظل يبدع بداية من مقالاته الغاية في الأهمية التي كان ينشرها في مجلة المصور منذ منتصف الثمانينيات لأكثر من عقد، مرورا بكتبه الثمينة المتعاقبة وحتى كتابه الأخير ــ فيما أظن ــ والمعنون: "ديمقراطية جديدة لمجتمع المعلومات" الذي صدر عن دار العين للنشر في 2010(كان عمره آنذاك 81 عاما) عشية حراك 25 يناير 2011...لم أحظ بمعرفة الأستاذ راجي عنايت" شخصيا ولكني تعلمت من كتاباته الكثير وفتح لي مبكرا أفقا للعالم الجديد وحقل المستقبليات وكتابات "ألفين وهايدي توفلر"...رحم الله الأستاذ "راجي عنايت" أحد عناصر كتيبة العلم والمعرفة والمستقبليات أو المبشرون بالعالم الجديد أو الرؤيويون مثل: محمد سيد أحمد، وإسماعيل صبري عبد الله، ونبيل علي، ومصطفى فهمي، وأحمد مستجير رحمهم الله...وأمد في عمر شوقي جلال ومحمد رياض...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern