أطل علينا عالم الاجتماع التنموي البريطاني "جي ستاندينج"(72 عاما) مطلع هذا الصيف بمدونة تحذيرية في غاية الأهمية يحدد ويعدد فيها قائمة من ثمانية أخطار عملاقة تهدد مستقبل العالم والتي يتحتم على مواطني الكوكب أن يشنوا الحرب عليها...فما هي هذه الأخطار؟ ولماذا وصفها بالعملاقة؟ والأهم كيف نواجهها؟...
وقبل الإجابة، أذكر القارئ الكريم بأننا قبل خمسة أعوام قمنا بالتعريف "بجي ستاندينيج" وبأهميته في إنجاز أمرين تاريخيين هما: أولا: إعادة الاعتبار للتحليل الطبقي كمقدمة ضرورية لفهم ما طرأ على الجسم الاجتماعي من مستجدات. ومن ثم، ثانيا: تجديد الخريطة الطبقية بإعادة رسم ملامحها والحدود الفاصلة بين الطبقات والشرائح التي تتكون منها...ما يمكن من إدراك أوضاعها الحقيقية وليست المتخيلة. وفي إطار بحث ميداني تاريخي، أجري في بريطانيا مطلع العقد الثاني من القرن ال21، نجح "ستاندينج" في يرسم خريطة دقيقة جديدة لبريطانيا تتجاوز التصور التاريخي النمطي للخريطة الطبقية الشائعة.
وساهما هذان الإنجازان في تمكين الباحثين والسياسيين والخبراء في إدراك أن الجسم الطبقي البريطاني قد استجدت عليه طبقات جديدة تنتمي ــ للأسف ــ إلى قاعدة الهرم الطبقي الذي زادت فيه المسافة بين قمته التي ضاقت بشدة وبين قاعدته التي اتسعت بحدة. وعليه أصبح الجسم الاجتماعي البريطاني يتشكل من سبع طبقات تترتب عاموديا كما يلي: أولا: طبقة النخبة ونسبتها 7%. ثانيا: الطبقة الوسطى المستقرة ونسبتها 25 %. ثالثا: الطبقة الوسطة المهنية ونسبتها 6%. رابعا: العمالة الجديدة ونسبتها 15%. خامسا: الطبقة العاملة التقليدية ونسبتها 14%. طبقة العمالة الخدمية غير دائمة ونسبتها 19%. سابعا: طبقة "البريكاريات" ونسبتها 15%...
ولم يكن هذا المسح مجرد مسحا كميا وإنا عني بإعادة تعريف كل طبقة "نوعيا" وأهم ما تتسم به إضافة إلى أمرين هما: أولا: إعادة تصنيف الطبقة الوسطى وفق جديد الثورة الصناعية الرابعة وما نتج عنها من وسائل انتاج. وثانيا: تحديده لطبقتين في قاع الهرم(العمالة غير الدائمة والبريكاريات) ووصفهما معا "بالطبقة الخطرة"، حيث لا يحسب لها حسابا في أية خطط أو سياسات(طبقة ما قبل مجتمعية أو طبقة برية). وثالثا: تمييزه لطبقة جديدة أطلق عليها "البريكاريات" التي قمنا بتعريبها وفق الملامح التي ميزها بها "ستاندينج" إلى "طبقة المنبوذين" لوضعها الكارثي الذي يتجاوز إمكانية وصفها بالهامشي أو المنسي أو ما شابه...ولعل من أخطر ما توصل إليه "ستاندينيج": "أن النسبة الإجمالية لطبقتي العمالة المؤقتة والمنبوذة بات يزيد على ثلث إجمالي السكان".
مما سبق تنبع أهمية "ستاندينيج" الذي فتح بهذا المسح آفاقا جديدة في مجال دراسة التحولات المجتمعية والطبقية لم يتوقف تطبيقها على بريطانيا فقط وإنما طبقها في أكثر من مكان خارجها. ومن ثم تطورت رؤيته للخطر الداهم الذي تتعرض له الإنسانية اليوم. وقد بلور رؤيته في الكتاب الذي صدر مطلع هذا الصيف المعنون: "الحرب على ثمانية عمالقة: الدخل الأساسي (اللائق) الآن ــ 2020"؛ أو بلغة مباشرة ذكرها في متن الكتاب يؤكد فيها على ضرورة: "قتل الأخطار الثمانية التي تهدد الإنسانية"...وقد حددها في الآتي: أولا: اللامساواة. ثانيا: عدم الأمان. ثالثا: الديون. رابعا: التوتر. خامسا: "البريكارياتية" أو ــ بحسب اجتهادنا في تعريب المفردة ــ "النبذ". سادسا: الأتمتة" أو إحلال الآلة محل الإنسان/المواطن. سابعا: الشعبوية والفاشية الجديدة. ثامنا: الفناء/الانقراض/الاندثار.
الكتاب في الأصل هو تقرير قدم لقيادات سياسية حزبية في المملكة المتحدة ثم تم توسيع نطاق الاستفادة منه داخلها وخارجها أكاديميا وسياسيا وتنمويا خاصة في الهند...ويؤسس "ستاندينج" رؤيته على:
تجديد "الحق" للمواطن/للإنسان؛ ليس حق البقاء/الإعاشة بالمعنى المادي المحض، وإنما ’’ حق المواطنة: الإنسانية الشاملة والكلية والمستدامة في الخير العام‘‘ دون تمييز...فكرة وممارسة...وذلك من خلال: أولا: الحد من الفقر واللامساواة بتنمية مستدامة. ثانيا: ادماج جميع مواطني العالم في نظام توزيعي عادل. ثالثا: تعزيز الأمن الاقتصادي لكل مواطن في إطار كل دولة. رابعا: عدم التورط في فرض ضرائب بصورة دراماتيكية. خامسا: عدم التورط في تفكيك الخدمات العامة في إطار استراتيجية تهدف إلى تجديد الخدمات العامة خاصة بعد ما طالها من تداعيات تأكدت في ضوء تطبيق سياسات التقشف الشرسة التي نفذتها أوروبا عقب الأزمة الاقتصادية والمالية الأبرز في التاريخ سنة 2008والممتدة الآثار حتى الآن. سادسا: الحد من الاعتمادية على مستوى المواطنين والدول. سابعا: التضامن "المواطني" والحكومي في الحرب الدائرة للدفاع وحماية البيئة من التحلل والتآكل...
فمن خلال ما سبق يمكن ــ في نظر "ستاندينج" ــ إعادة بناء دولة الرفاه التي يعتبرها أهم إنجازات القرن العشرين شريطة تجاوز النظام الاقتصادي الذي ساد العالم منذ سنة 1980 والذي وصفه "باللاأخلاقية" لأنه ساهم في تقويض دولة الرفاه من جهة، وغيرها من التجارب التنموية البازغة من جهة أخرى التي كانت تمارس دورا فعالا في ضبط الفقر وتحقيق معدلات تنموية معتدلة ومقبولة...ما ساهم في "عملقة" الأخطار الثمانية سالفة الذكر لتمثل بحق تهديدا وجوديا على مواطني العالم وذلك للتداخل الشديد بين بعضها البعض. وفاقم آثارها الضارة على أحوال مواطني الكوكب للدرجة التي لم تعد تفلح معها سياسات وبرامج (روشتات)المساعدة الاجتماعية المتعددة التي خرجت من عباءة هذا النظام الاقتصادي في إنقاذ المتضررين الذين بلغوا في أقل تقدير ما يقرب من 60% من إجمالي المواطنين في الدول المتقدمة والأقل تقدما على السواء يعانون الفقر، والبطالة، والحرمان من الفرص والخدمات والأنظمة التأمينية المختلفة، والحضور المجتمعي الفاعل على جميع الأصعدة...
ويخلص "ستاندينج"، وفي ضوء تجارب ميدانية تجريبية واسترشادية داخل بريطانيا وأوروبا وخارجهما أنه لا مفر من أن تسلك الإنسانية طريقا مغايرا يعتمد، بداية، دخلا أساسيا لائقا وعادلا...نتابع...