(1) «حلم العمر الكبير»
من فوائد فترة العزلة فى سنة الغلق التحرر من عبودية اللهاث اليومى. ففى فترة العزلة تتاح للمرء أن يراجع نفسه ويراجع نتاج هذا اللهاث ومضمونه.. وهل يستقيم أن يستغرق/ يغرق المرء فى هذا اللهاث.. ألا يستحق الأمر وقفة تتجدد فيها القدرة على الحلم بإنجاز، أو لنقل بصمة مميزة عظيمة الأثر قدر الإمكان..
ما يلزم أن يخوض المرء حلمًا واعيًا يتيح ميلادًا جديدًا وفعلًا مؤثرًا.. حلم الإبداع الجميل والجمال البديع.. فى هذا السياق تبلور لدىّ حلم العمر.. ألا وهو إنجاز «موسوعة المواطنة»... لماذا؟
(2) «المواطنة: علم كبير وعالم واسع؛ يصعب اختزاله»
فى مطلع التسعينيات، وقع فى يدى كتاب «الطبقة، المواطنة والتنمية الاجتماعية» الصادر بعد الحرب العالمية الثانية لعالم الاجتماع البريطانى ت. هـ. مارشال (1893 ـ 1981) الذى يعود له الفضل فى التنظير للمواطنة واعتبارها حقلا معرفيا متكاملا. وتبين لى بقراءة الكتاب أن المواطنة لا يمكن أن تتجلى قيمتها إلا عبر ممارستها ــ عمليا ــ وتفعيل جوهرها فى شتى الأبعاد على أرض الواقع.. أى أن المواطنة: «الفعل» هى التى تعطى لوثيقة الجنسية الرسمية وللنص الدستورى المعنى والدلالة.. حيث الامتناع عن ممارسة المواطنة «الفعل» أو الحيلولة دونها ــ لأى سبب ــ هو بمثابة تعليق للحضور الإنسانى/ المواطنى ولأدواره التى من المفترض أن يضطلع بها سواء فى المجال العام أو المجالات النوعية المختلفة.. واتضح أيضا أن المواطنة، بالمعنى الذى طرحه «مارشال»، تمسُّ كل ما يتعلق بحركة الإنسان فى حياته اليومية: اقتصاديا/ اجتماعيا، وسياسيا/ مدنيا، وثقافيا. كما ترتبط المواطنة ارتباطا وثيقا بالتطور الاقتصادى/ الاجتماعى للبلدان، وبهيكل الدولة، وبنمط الإنتاج السائد، وبالبناء الطبقى، وبالعملية الديمقراطية بتفصيلاتها، وبالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبمنظومة الحقوق...إلخ، (رصدنا ما يزيد على 60 عنصرًا موزعة على أبعاد المواطنة المختلفة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية، يشكلون فى المجمل المواطنة فى تجليها).. على هذه الخلفية اتسعت زاوية رؤيتى للمواطنة، ومن ثم اختلفت مقاربتى لها.. فلم تعد المواطنة لدىّ تعنى حصرًا ــ كما لا يزال شائعا ــ العلاقة بين الأغيار دينيًا فقط. فلا مواطنة لفئة ما لم يحظ الجميع بالمواطنة بنقس القدر. وإلا يصبح الأمر أقرب إلى الامتياز...
(3) «الموسوعة: ضرورة»
حاولت منذ كتابى الأول «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية فى الشرق الأوسط ــ 2000»، حتى كتابى الأخير «الهوية والمواطنة: جدل النضال والإبداع فى مصر ــ 2020» أن أقارب المواطنة فى إطارها الأوسع.. فخلال هذه الفترة تكشف لى كيف أن هذا الموضوع قد باتت له أدبياته التى تصنع منه حقلا معرفيا مستقلا تحرره من المقاربات النمطية والإنشائية واللغوية والسكونية اللاتاريخية واللاجتماعية. إضافة إلى الخلط السائد بين المواطنة وحقوق الإنسان والتربية المدنية. والتعريف الحصرى الشائع للمواطنة بالهوية والانتماء. فى ظل عدم مواكبة جديد المواطنة من إبداعات.. وعليه اجتهدت أن أحرر المواطنة من المقاربات الشائعة غير الدقيقة وأن أطرح تعريفا متطورا يأخذ فى الاعتبار الاجتهادات السابقة التى تنتمى لأدبيات المواطنة بداية «بمارشال» مرورًا «بتيرنر» و«جيدنز» و«لاروش» و«ستيينبرجن» و«ستيفنسون» و«باينر» وعشرات غيرهم.. فى هذا الإطار شجعتنى فترة العزلة بعد أن عشت دهشة لا حدود لها مع إبداعات ثمينة تدهش العقل وتنشط الذهن وتمتع النفس للتأمل والتفكر ومن ثم الإبداع.. وهنا راودتنى فكرة إنجاز عمل مرجعى من ثلاثة مجلدات يكون بمثابة موسوعة مكثفة حول موضوع حيوى يمس حركة الإنسان/ المواطن فى كل صغيرة وكبيرة.. فكانت فترة العزلة خير معين فى وضع البنية الأساسية والهيكلية الأولية لهذا الجهد كما يلى: أولا: هيكل موضوعات الموسوعة. ثانيا: تأمين البنية التحتية للعمل من المصادر والتى وصلت إلى ما يقرب من 1000 كتاب ومئات الأوراق الدراسية (مصادر أساسية وتأسيسية متنوعة من مارشال وحتى يومنا هذا عدا الموسوعات والأدلة).. فهل يكتمل حلمنا الواعى؟... نواصل...
■ بعد المقال...
وصلنى الكثير من الاتصالات والمراسلات التى تعبر عن استحسانها لسلسلة «أحلام فترة العزلة» منهم: المفكر الكبير شوقى جلال، والدكتور حسام بدراوى، والفنانة التشكيلية زينات مكاوى، والمحامى عصام الإسلامبولى، والسفير راجى الاتربى الذى أرسل رسالة كريمة نعرض جانبًا منها الأسبوع القادم... لهم منى جميعا جزيل الشكر.