(1) «العزلة ليست برجا عاجيا»
أحلام فترة العزلة هي أقرب إلى «الاستنشاقات» العميقة لرياح الإبداع والاجتهاد المتنوعة والمتلاحقة في شتى المجالات... كذلك أشبه بالإطلالات المدققة على جديد الابتكارات العقلية الإنسانية: الفكرية والتقنية، المطردة والمتضاعفة... فمن خلال هذه «الاستنشاقات» والإطلالات يمكن تعويض تعثرنا التاريخى وتخلفنا الحضارى... وفى هذا السياق، يصبح
فتح النوافذ فريضة وضرورة... فتح النوافذ على العالم الجديد أو بالأحرى «العوالم الجديدة» بكل ما تحمل من أفكار واتجاهات وإبداعات معنوية ومادية... إنها عملية استبصار ثاقبة لعملية التحول بكل ما تتضمنه من تشكلات. وعلينا في هكذا لحظات، كما يقول توفيق الحكيم: «أن نقبل دائما فتح النوافذ. ولا تفزعنا النتائج التي قد لا تكون مكتملة الآن كل الاكتمال، ولكنها سوف تكتمل غدا»... وقد يحسب البعض أن العزلة هي نوع من الانسحاب أو الاعتصام ببرج عاجى... إلا أن «الحكيم» الذي كان متهما بأنه يعيش في برج عاجى منعزلا بأن هذا الخيار عنده هو: «الصفاء الفكرى والنقاء الخلقى وهو الصخرة التي ينبغى أن يعيش فيها من عمل بالفكر واهبا نفسه لكل شىء نبيل رفيع جميل»... فمن امتهن الفكر بحسب «الحكيم» أيضا عليه أن يكون مع «الناس بجسمه لا بنفسه»... ذلك لأن فتح النوافذ وتعظيم القدرة على إدراك رياح التجديد وحصاد الجديد تحتاج إلى «عزلة معنوية» التي من سماتها: الاستقلال والوعى والحرية... ومن ثم قبول التجدد...
(2) «عالم جديد ليس أحادى الملامح أو خطى المسار»
بالمعنى السابق، تؤكد أحلامنا في فترة العزلة: أو إطلالاتنا واستنشاقاتنا، وفتح النوافذ على أننا نعيش عالما جديدا أو للدقة عوالم جديدة... عالم ليس «أحادى الملمح» كما عرفنا من خلال التجربة التاريخية. كما أنه لم يعد «نتاجا خطيا»... بلغة أخرى فلقد عرفت الإنسانية «عالم الزمن الزراعى» أو «عالم الزمن الصناعى»، حيث ملامح كل عالم من هذين العالمين محددة زراعية كانت أو صناعية بما تتضمن من علاقات وأنماط وممارسات مجتمعية متنوعة... ويعتبر عصر الصناعة هو النتاج الطبيعى للعصر الزراعى... بينما عالم اليوم هو عالم متعدد ومتشابك الأبعاد ذات معرفة متضاعفة بلا حدود وتجدد تكنولوجى لا سقف له ولا يعد امتدادا خطيا لما قبله بل هو نقلة مركبة و«طفرية» (من طفرة)... ما دفع إلى تطور نوعى شبكى في طرق التعاطى مع الإشكاليات وكيفية مقاربتها... ومن ثم أنتج أمرين هما: أولا: إسقاط الحدود بين الحقول المعرفية المختلفة. ثانيا: انتعاش الإبداع خارج الأطر المفهومية والمنهجية التقليدية التاريخية... وقد كان للتقدم المذهل في عالم التكنولوجيات الرقمية فعله في إحداث هذا التطور الذي أسهم في توفير فرص للإبداع غير نمطية لجيل الألفية الجديدة- أو جيل جوجل- ما منحه شعورا بالأمان والاستقواء لمواجهة تداعيات خروجه على النصوص المختلفة: الجيلية، والسياسية/ المدنية، والثقافية/ الدينية، والاقتصادية/ الاجتماعية، التي طالها في نظره الاهتراء من جهة ولحقت بها الشيخوخة من جهة أخرى... ما ساهم في ميلاد عوالم جديدة مغايرة كليا عما دأبنا على معرفته...
(3) «عالم جديد... نعم غير آمن ولكن يستنفرنا لمواجهته»
من أهم سمات عالم اليوم هو أنه دائم التحول والتجدد. فلم تعد البشرية مضطرة للانتظار قرونا حتى تحدث تحولات جذرية. فبات يمكن أن تحدث تحولات حاسمة أكثر من مرة في إطار الجيل الواحد... وتنطلق التحولات من التناقض بين اللايقين الذي نشعر به جميعا: كبارا وصغارا، ملاكا وأجراءً، حكاما ومواطنين... إلخ، وبين ضرورة الإبداع وتنوعه باعتبار أن الإبداع هو سبيلنا الوحيد لمواجهة اللايقين... ففى العالم الجديد يعمل الإنسان/ المواطن على مواجهة اللايقين- وذلك بمعونة التكنولوجيات الرقمية- بالتحرر من كل من: أولا: الاستسلام للايقين من جهة. وثانيا: التصور الكاذب بالانتصار عليه من جانب آخر... إنه الفخ التاريخى الذي علينا ألا نعلق في شباكه... وذلك بإدراك العالم الجديد وفتح النوافذ عليه دون خوف... والاطلاع على إبداعاته المثيرة للدهشة والباعثة على التأمل والدافعة للتجدد والفعل... نواصل...