(1) «الإنسانية فى عالم لا إنسانى»؛
هل لم يزل للإنسانية موقع فى عالم اليوم؟.. سؤال مطروح بقوة فى ظل أمرين هما: أولًا: شراسة النظام الاقتصادى السوقى السائد منذ أربعين سنة وما نتج عنه من صراعات وتفاوتات اقتصادية واجتماعية وثقافية غير مسبوقة بين البشر. ثانيًا: ثورة صناعية رابعة سوف تؤدى إلى بطالة تاريخية بسبب «الأتمتة» أو إحلال
الآلات محل البشر.. كيف لإنسان اليوم أن يمارس إنسانيته فى سياق غير آمن يضعه فى حالة تهديد وجودى؟.. يجيب أحد المفكرين المعاصرين بأن الإنسانية استطاعت عبر العصور أن تنتصر على كل القوى التى حاولت أن تسحقها مثل: أولًا: الهمجية والبربرية. ثانيًا: الأبوية والظلامية. ثالثًا: الاستغلالية والفاشية.. وأنه لا يشك لحظة فى قدرتها على أن تتجاوز القوى الشرسة الراهنة.
(2) «الحاجة إلى تجديد الإنسانية»؛
لسنا فى حاجة إلى مواجهة العالم الإنسانى الراهن من خلال أن نعيد إنتاج الماضى، ولكن من خلال فهم الحاضر والحلم الواعى بالمستقبل الذى يضمن لنا الحد الأدنى من الكرامة والعدالة والحرية.. ونستحضر جانبًا من حلمنا الواعى المحمل بالدهشة والتأمل والتوجيه للمستقبل من نص للفيلسوف الفرنسى جابرييل مارسيل (1889ـ1973) فى عمله المسرحى: «رجل الله» (بتصرف) يقول فيه على لسان أحد أبطال العمل: «لا وجود لنموذج (يُحتذى).. فلكل حياة من الحيوات جمالها الخفى».. بلغة أخرى لكل زمن من الأزمان طبيعته التى علينا أن ندركها ونفهم جوهرها وموازين القوة الحاكمة التى تتحكم فى أن تسود اللاإنسانية على حساب الإنسانية.. وهنا نشير إلى حلم واعٍ آخر تذكرته فى هذا المقام لعبارة سابقة عصرها، مدهشة، وعميقة جدا للمفكر الكبير «لويس عوض»(1915 - 1990)، الذى يقول فيها: «إن الإنسانية بحاجة إلى العقل، وإلى الخيال، وإلى الرمز، وإلى الوجدان، وإلى الواقعى، وإلى ما تحت الواقع، وإلى ما فوق الواقع.. الإنسانية بحاجة إلى كل شىء يجدد الحياة فيها».. نحن لسنا فى حاجة إلى إنسانية العصور الوسيطة، ولا تحولاتها المتنوعة فى القرنين التاسع عشر والعشرين، التى تلونت بالأيديولوجية السياسية والدينية، وبالهيمنة الغربية والرأسمالية، وبالسياسات الإقصائية والتهميشية (من تهميش) والنبذية (من نبذ)، وبالروح المعادية للإنسانية نفسها... إلخ... وإنما إنسانية جديدة قادرة على مواجهة طفرات القرن الواحد والعشرين.. إنسانية عميقة تقوم على: العقل والفعل، إدراك طبيعة الصراع واستبصار كيفية التحرك، والتضامن وبناء الجسور بين الإنسان وأخيه الإنسان فى كل زمان ومكان، أخذا فى الاعتبار التنوع واستيعاب واحتواء التجدد التكنولوجى المطرد ليكون خادما لا حاكما للإنسان.
(3) «قلوب واحدة وعظام متصارعة»؛
من أجمل ما شاهدت، فى فترة العزلة ورأيته أكثر من مرة، فيلم «قلوب وعظام ــ 2019» الذى تناول قصة مصور أسترالى متخصص فى متابعة تصوير أحداث الصراعات والحروب فى مناطق النزاع فى العالم، والذى عاد إلى موطنه ليستعد لإقامة معرض يقدم فيه حصاد رحلاته التى يجسد فيها المعاناة الإنسانية. وتصادف أن أحد النازحين من جنوب السودان إلى أستراليا عرف بأمر المعرض، وأن جزءا من الصور التى سيتم تقديمها تخص منطقته التى تعرضت لمذبحة عنيفة. فذهب للمصور فى محاولة لإقناعه بعدم عرض الصور احتراما لضحايا المذبحة. فى هذا السياق، تحدث الكثير من الأحداث بين المصور الأبيض واللاجئ الأسود، تكشف عن أن الاختلافات الإنسانية هى أوهام تصنعها المصالح الاقتصادية والسياسية والسمات الخارجية، والظروف التى ننشأ فيها هى التى تحول دون مواجهة القسوة/ المعاناة الإنسانية.. ويمكن إذا ما واجهنا أنفسنا أن تتخلق إنسانية مقاومة لكل من دوافع القسوة وأسباب المعاناة..
..ونواصل أحلامنا الواعية.