واحدة من الإشكاليات المُتفاقمة التي يعاني منها مواطنو العالم هي ما يطلق عليه "توماس بيكيتي": "اللامساواة في الدخل"...وهي إشكالية تعاني منها المجتمعات المتقدمة والأقل تقدما على حد سواء.
فلقد كشف الاقتصادي الفرنسي الأشهر"توماس بيكيتي" في مجلده المعتبر الأول:
"رأس المال في القرن الواحد والعشرين ــ 2013"؛ وذلك من خلال دراسة للمجتمعين الفرنسي والولايات المتحدة الأمريكية، منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن، على أن هناك تناميا متزايدا للامساواة في الدخول قلة مركزية وأغلبية قاعدية ما سوف يؤدي إلى الكثير من التداعيات المجتمعية. وأن هذه الإشكالية سوف تزداد تفاقما مع التوجه المطرد نحو "الأتمتة" أو الاعتماد على الآلة في تشغيل دولاب العمل اليومي...ما سيؤدي إلى تداعيات مجتمعية خطيرة.
في هذا السياق، حاول "بيكيتي" تفسير هذه الإشكالية الدالة على وجود اختلالات جوهرية في النظام الاقتصادي السائد في العالم...يجيب "بيكيتي" (سوف نعتمد في الإجابة على نص الترجمة العربية ــ بتصرف ــ لمجلد "بيكيتي"، المذكور، التي قام بها الباحثان المتميزان "وائل جمال" و"سلمى حسين ــ 2016"؛ بأن هناك افتراضين هما: أولا: "أن أجر العامل مساوٍ لإنتاجيته الحدية، أي مساهمته الفردية في ناتج الشركة أو المكتب الذين يعمل بهما. ثانيا: هو أن إنتاجية العامل تعتمد قبل أي شيء على مهارته وعلى الأرض والطلب على هذه المهارة في مجتمع ما"...أي أنه في حالة ما إذا تزايد الطلب على أصحاب المهارات من فئة مهنية معينة من المجتمع فإن العرض سينخفض. ومن ثم تتفاوت أجور ومداخيل أصحاب المهنة الواحدة...قد يقول قائل ما الجديد في هذا؟...إنها آلية تتسق مع المنطق وانعكاس لقانون العرض والطلب، القانون التاريخي الثابت والمستقر عبر الأزمنة والعهود...
إلا أن الإضافة التي أضافها بيكيتي" في هذا المقام هو أنه كشف عن تلك العلاقة الوثيقة بين "حالة النظام التعليمي" و"التقدم التكنولوجي" في أي مجتمع من المجتمعات...فمن جانب أول: تُحدد حالة النظام التعليمي ما يلي: كم عدد من يمتلكون القدرة على النفاذ لهذا المسار أو ذاك، مدى جدوى التدريب، وإلى أي مدى يوفر التعليم السائد التقنيات الجديدة التي يتم استخدامها في الحياة العملية، وكذلك إلى أي حد تتوفر للطلبة التعاطي مع التكنولوجيا؟...ومن جانب ثانٍ: ما هو المستوى التكنولوجي المأخوذ به في القطاعات المهنية المختلفة؟...فمن محصلة هذين العاملين: حالة التعليم/والتدريب ومدى التقدم التكنولوجي على الوضعية الاجتماعية والطبقية للمواطن العامل بفعل المداخيل التي ستتمايز بين الأبناء المهنة المختلفة. نظرا لأن هناك اخلافا في نوعية التعليم والاطلاع العملي على جديد التكنولوجيا...
وهنا ينبغي الانتباه إلى أن منظومتي التعليم والتكنولوجيا، في أي مجتمع، هما نتاج لسياسات عامة تعكس اختيارات سياسية واجتماعية وتمويلية ما. فإما أن تضمن هذه السياسات تعليما مستداما قادر على التعامل مع جديد التكنولوجيا وتطبيقاته للجميع. ما يعني ضمان حدا أدنى من المساواة في الدخل...أو تكون هناك سياسات أخرى تشكل مسارات تعليمية مختلفة متفاوتة الجودة التعليمية. وعليه يتفاوت التعاطي مع التكنولوجيا. كذلك يختل ميزان العرض والطلب. حيث يرتفع الطلب على المهارات المواكبة لجديد التكنولوجيا. وعليه، لا تتفاوت الأجور أكثر فأكثر، فقط، وإنما تزداد اللامساواة في سوق العمل...وبالأخير تحدث اللامساواة في شتى صُعد البناء الاقتصادي...
إذن، سوء السياسات العامة المتعلقة بالتعليم من جهة، والتجدد التكنولوجي المطرد من جهة أخرى، أصبحا يمثلان خطرا شديدا على ما نسبته أكثر من 50% من الوظائف في جميع السياقات المجتمعية حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالطبع سيزداد الخلل في الأجور في المجتمعات الريعية حيث يطول الخلل البنية الطبقية بالكامل نتيجة الافراط في السلوك الاستهلاكي تدفع ثمنه القاعدة العريضة من الطبقة الوسطى...فمهما
في ضوء ما سبق، بدأت بعض الدول تطبق ما بات يُعرف "بالدخل الأساسي الشامل" “UBI”؛ وذلك على المستوى الكلي لها، أو جزئي في حدود مدينة أو منطقة بعينها. ومن هذه الدول والمدن نشير إلى: الهند، وفنلندا، ومدينة ليدز البريطانية، وغيرهم...في محاولة مبتكرة لمواجهة: أولا: تداعيات الثورة الصناعية الرابعة التي ستقلل الحاجة إلى القوى البشرية ومن ثم تتضاعف نسبة البطالة، وثانيا: تغييب الفرص المتكافئة بفعل سياسات الليبرالية الجديدة المُجحفة التي تعمد على إغفال المساواة والإنصاف والعدالة، وثالثا: إضعاف فرص الكثيرين للحاق بالتقدم التكنولوجي، إضافة، بالطبع، لتداعيات الجائحة الفيروسية القاسية(التي فصلناها قبل أسابيع)،...،إلخ،...ما سيضرب في الصميم توزيعات الدخول للفئات المختلفة التي هي انعكاس بدرجة أو أخرى للجسم الاجتماعي...
ويهدف "الدخل الأساسي الشامل" إلى تأمين حياة كريمة للمواطنين من خلال دخل عادل ومنصف: "لائق"؛...وهو مفهوم يتجاوز فكرة الحد الأدنى للأجور بصورتها النقدية الميكانيكية المباشرة...
ففي إطار برنامج الدخل الأساسي الشامل، يحصل كل مواطن على دخل ثابت بصرف النظر عن أوضاعه الاقتصادية، أو الوظيفية، وقد تكون هذه الأموال معفاة من الضرائب أيضاً، كما في حالة النسخة الفنلندية من هذا النظام (كما يشير أحد الباحثين). ويمكن لهذا النظام في الواقع أن يكون "بديلاً، بشروط، عن منصات الخدمات الاجتماعية القائمة، والتي غالباً ما تكون أكثر كلفة بالنسبة للحكومات لكي تدعم استمرارها". وتتيح هذه الفكرة وبرامجها التطبيقية إنعاش الاقتصاد الكلي. ويتم تمويل الدخل "اللائق" من إعادة توزيع عادلة للعوائد المتراكمة للشركات دون الحاجة إلى اللجوء لضرائب جديدة أو إضافية...ونتيجة لتوفر المال والسيولة الأساسية للعيش لا يبقى المواطنون الأفراد، وحدهم، هم المستفيدون مالياً من هذا النظام، بل يمكن للاقتصادات الكلية الاستفادة منه...
يلقى نظام "الدخل الأساسي الشامل"، او الدخل اللائق العادل، قبولا في الأوساط الأكاديمية و"السياساتية" الحكومية: الاقتصادية والاجتماعية؛ نتابع في مقال الأسبوع القادم تفصيل أفكاره الأساسية وتطبيقاته العملية...