’’ أي صدمة أكثر من "اللامساواة التاريخية"؛ التي وصل إليها العالم، تُحتم ببلورة نظام اقتصادي عالمي جديد ‘‘...
على مدى عقد من الزمان، عمل "توماس بيكيتي" أن يبرهن على ضرورة تجاوز النظام الاقتصادي السائد وبناء بديل جديد أكثر عدلا. وذلك من خلال أبحاثه الميدانية وكتاباته المبكرة ومجلديه الفكريين المرجعيين (الألفيين) المعتبرين: "رأس المال في القرن الواحد والعشرين ـ 2013"، و"رأس المال والأيديولوجيا ــ 2020".
وبغض النظر عن أية انتقادات تعرض لها "بيكيتي" من الاقتصاديين الذين ينتمون لليسار ولليمين، على السواء، إلا أنه استطاع أن يضع إشكالية اللامساواة التاريخية بين القلة الثروية والأغلبية المواطنية على رأس الاهتمامات الأكاديمية والبحثية والسياسية والاجتماعية لأنها وصلت إلى حد ينذر بكارثة كوكبية. فمن خلال التتبع التاريخي لمسار توزيع الثروة وجد "بيكيتي" إلى أن غالبية الثروة كانت تصب لصالح الأقلية ولا يبقى منها للأكثرية إلا القليل. وفي هذا المقام، يشير "بيكيتي" إلى أن 10 % يملون 80% من الثروة على مستوى العالم، و1% من هؤلاء يملكون 50% من الثروة. وفي مقارنة بين فئة ال 10% الأكثر ثراءً وفئة ال10% الأكثر فقرا من سكان العالم وجد "بيكيتي" أن نسبة توزيع العوائد والمداخيل تحظى منه الفئة الأولى بما يقدر ب10 أمثال دخل الفئة الثانية. وهو أمر يضعف النمو ويضر بكثير من الطبقات الاجتماعية ويخلق حالة من الرخاء الكاذب...
إذن، كانت "اللامساواة" هي كلمة السر التي كشفت ما آلت إليه أحوال سكان الأرض من "تفاوتات" صارخة في شتى المجالات. ما دفع إلى الاهتمام الأكاديمي والسياسي بقضية اللامساواة نظرا لتداعياتها الكارثية المؤدية "للتدمير الذاتي" بحسب "بيكيتي". لذا كان جل اهتمام الباحثين في السنوات الأخيرة موجها إلى وضع تصورات جديدة قابلة للتطبيق حول كيفية تقديم حلول عملية لمواجهة "اللامساواة التاريخية" من خلال ابتكار سياسات وبرامج اقتصادية تعمل على تقليص منظومة اللامساواة والتفاوتات والفقر بدرجاته التي ترسخت عبر التاريخ وصارت تتفاقم مع الأزمات الاقتصادية العالمية.
وفي هذا السياق، تَقدم جيل جديد من الاقتصاديين لتطبيق مناهج تجريبية جديدة ميدانية في مناطق عدة من العالم. وذلك من مداخل مختلفة مثل: الصحة، والتعليم، والتغذية. ولعل مراجعة قائمة أسماء الحاصلين على نوبل للاقتصاد في السنوات الأخيرة سوف يلحظ أن أغلبهم قد عنوا بإشكالية اللامساواة وكيفية ابتكار برامج ذات طابع تنموي توجه للمواطنين في إطار سياسات الحد من الفقر عموما وتحقيق حدا أدنى من العدالة لهم. ونذكر هنا "آنجَس ديتون"(نوبل 2015)، و"إيستر دوفلو" و"مايكل كريمر" (نوبل 2019)، و"بول ميلجروم" و"روبرت ويلسون" (نوبل 2016). إضافة إلى العديد من الاقتصاديين المعروفين الذين كرسوا أعمالهم الأخيرة للتعاطي مع إشكالية "اللامساواة" المحتقنة، ولأعضاء "التحالف المساواتي" من منظري وحركيي الأحزاب والحركات المواطنية الجديدة من دعاة المساواة...
ويقدم "بيكيتي" رؤيته ومشروعه من أجل تجاوز اللامساواة التاريخية ــ التي يمكن أن تتفاقم في ظل الكورونا إضافة إلى العيوب البنيوية للرأسمالية: طبعة الليبرالية الجديدة ذات الوضعية المتأزمة على مدى أربعين سنة...رؤية تقوم على العمل من أجل تحقيق أمرين متراكبين هما: ’’الدولة الاجتماعية‘‘ و ’’المجتمع العادل‘‘...
يخصص "بيكيتي" فصلا في خاتمة كتابه الألفي الثاني: "رأس المال والأيديولوجية ــ 2020"؛ الذي يمثل ـــ مع كثير من الكتابات والجهود التطبيقية التي تمارس في ظل هذه الاجتهادات ـــ مدى حيوية العقل الإنساني الذي انتبه إلى خطورة الوضع فدأب على دق ناقوس الخطر باستحالة استمرار أنظمة ومجتمعات اللامساواة لأن مصيرها هو فناء الكوكب. ومن ثم ضرورة العمل على إحداث تحولات جذرية وبنيوية للنظام الاقتصادي "اللامساواتي" السائد والموروث قسرا في اتجاه العدالة الحقيقية للجميع دون تمييز. وإلا فإن البديل المتوقع هو التدمير الذاتي...
ولأن الدولة الاجتماعية لا يمكن أن تعمل وحدها في عملية بناء المجتمع العادل فهناك حاجة للتأكيد المبدئي على أمرين ــ يقول "بيكيتي" ــ هما: أولا: "التشارك" “Participation”؛ وثانيا: التداول “Deliberation”في شتى الأبنية الدولتية/المجتمعية...وفي ضوء بنية مؤسسية محكمة تناول "بيكيتي" عناصر رؤيته التي توصل إليها في ضوء دراسته الموسوعية لتاريخ توزيع الثروة في أوروبا والعالم وما ترتب عليه من نتائج كان عنوانها العريض: اللامساواة وغياب العدالة والتبرير الأيديولوجي لهكذا وضع من قبل نظم لا مساواتية تاريخية. وتقوم هذه الرؤية المطلوب بلورتها في الآتي: أولا: ضرورة التوافق المجتمعي على ضمان المساواة والتوزيع العادل. ثانيا: عدم تحول الملكية لتكون أداة في السيطرة على المواطنين. وشفافية مسارات ومآلات الثروة في المجتمعات المختلفة. ثالثا: إعادة النظر في البنى المؤسسية الدولتية والمجتمعية وما طرأ عليها من متغيرات ما بين مرحلتي ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى 1980 وهي السنة التي انطلقت فيها مرحلة تاريخية أطلق عليها "بيكيتي"، "مرحلة الرأسمالية في أعلى صورها/الما بعد كولونيالية(الاستعمارية)". رابعا: إعادة النظر في نظم الضرائب المتبعة والتي لا تخدم إلا الأثرياء. ويميل "بيكيتي" إلى الأخذ "بتصاعدية الضريبة". وفي هذا المقام يقترح أمران: الأول: نظام ضريبي عالمي على رأس المال المتدفق عبر الحدود ما يعيد ــ بعض الشيء ــ توزيع تمركز الثروة العالمية، والثاني: تنظيم ضريبة جديدة على الصناعات التي تسبب انبعاثات كربونية تخصص لصالح المتضررين منها والحفاظ على البيئة(ونشير إلى أن الحاصلين على نوبل للاقتصاد ـ 2018، قد عملا على إدماج نتائج التغيرات المناخية في دراسة الاقتصاد الاقتصاد الكلي). خامسا: إعادة بناء المنظومة التعليمية حول قيمة محورية هي قيمة العدالة. سادسا: إعادة النظر في قيمة الدخل الأساسي من أجل تأمين دخل عادل. الأمر الذي بات موضوع نقاش واسع نتناوله في مقالنا القادم مع مشروع فكري آخر...يعتبر مجلدا "بيكيتي" محل إلهام لليسار واليمين ومنصة انطلاق لتجاوز محنة الاقتصاد العالمي الراهنة...