بيكيتي" والمجتمع العادل"

بالرغم من الانكماش الاقتصادي الحاد وتداعياته الكارثية على مواطني الكوكب نتيجة "لجوائح" فيروسية وبيئية وطبيعية متكاثرة من جهة و "جوائر" اقتصادية ومالية متعاقبة على مدى عقود من جهة أخرى...إلا أن العقل الإنساني، الذي يحمل قبسا من القدرة المطلقة، لم يتوقف عن الإبداع في محاولة منه لتجاوز لحظة تاريخية مُخيفة ومُربكة لا أحد يدرك بدقة مداها ومتى يمكن تجاوز ثقلها والتعافي من أضرارها...


في هذا المقام، نعرض لألفية جديدة من المشروع الفكري الجاد والمتميز للعالم الاقتصادي الفرنسي المُعتبر "توماس بيكيتي"(1971 ـ ) أطلقها في ذروة نشاط الجائحة الفيروسية باعتباره أحد المشروعات الفكرية الكبيرة التي انطلقت هذا العام في سنة "الكورونا" ( كنا قد وعدنا بتقديم أهم ثلاثة مشروعات فكرية في مقالنا السابق التمهيدي المعنون: مشروعات فكرية تمنح الأمل للإنسانية).
بداية، نشير إلى أن "بيكيتي" يشغل موقع مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية الفرنسية وأستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد. ويعتبر من أهم الاقتصاديين في العالم اليوم لجهوده المبكرة والرائدة في تناول إشكالية: "اللامساواة أو التفاوت في توزيع الثروة بين المواطنين"؛ قبل عقد من الزمان، وهو لم يزل بعد في الثلاثينيات من عمره...فلم يكتف بأن يدرس هذه الإشكالية من منظور الأرقام ودلالاتها التي تؤشر بها المؤشرات الكمية مثل "معامل جيني" المعروف للباحثين في هذا المجال.. ولكن خاض في محاولة فهم ماهية "الميكانيزمات" بين تراكم الثروة في أيدي القلة وعدم عدالة توزيعها على الغالبية من المواطنين...عاد "بيكيتي" إلى الوراء أكثر من قرنين من الزمان في محاولة لتتبع مسار هذه الآليات وقام برصدها ووجدها قد كونت بنية اجتماعية ممتدة ومتواصلة عبر المكان والزمان أدت إلى لا مساواة تاريخية دائمة تتنامى طرديا مع شراسة الرأسمالية العالمية خاصة في طبعتها الليبرالية الجديدة بعد سنة 1980...وكانت هذه الخلاصة هي مادة كتابه الألفي (نسبة إلى اقترابه من الألف صفحة) الأول والذي كان عنوانه: "رأس المال في القرن الواحد والعشرين"...
في ألفيته الثانية الصادرة في طبعتها الإنجليزية في مارس 2020، والتي تجاوزت الألف صفحة المعنونة: "رأس المال والأيديولوجية"؛ يقوم بيكيتي" من خلال مقاربة مركبة: سوسيو تاريخية واقتصادية وفكرية، تشريح النظام الاقتصادي العالمي تاريخيا منذ المجتمعات الحضارية القديمة: الآسيوية والشرقية والعربية الإمبراطورية القديمة. ووصفها "بمجتمعات الأنظمة الاختلالية الثلاثية"؛ ويشرح طبيعة هذه الأنظمة بأنها تتشكل من ثلاثة أطراف هم: أصحاب رأس المال، والأيديولوجيون، والمواطنون. حيث يصطف أولا: أصحاب رأس المال من ذوي القوة والجاه في تحالف مع الأيديولوجيين كي يحمونهم بالتخديم على ممارساتهم من خلال ما عُرف "بحق الملكية المطلق والدائم" وتبريره فلسفيا وفكريا ودينيا وثقافيا لمواجهة ثانيا: المحكومون من غالبية المواطنين. ما كرس نظاما اجتماعيا ــ عابرا للزمن ــ يتسم بالتراتبية والسكون وبقاء الوضع الاختلالي على ما هو عليه...وأبد العلاقة الثنائية بين "رأس المال والأيديولوجيا"...ودفع بتأسيس ما أسماه "بيكيتي": ’’أنظمة اللامساواة‘‘ “ Inequality Regimes ”؛ ومن ثم تبقى الأقلية الثنائية السائدة خالدة في موقعها المهيمن من جهة...وفي المقابل ترضى الأغلبية الخادمة بالوضع الاختلالي مهما ارتفع أنينها...
ويفصل "بيكيتي" كيف نسجت هذه الأقلية الثنائية السائدة علاقة تاريخية ممتدة "لا تنفصم بين حق الملكية والامتيازات"، التي تحكم امتلاكها لتظل المجتمعات محكومة عبر العصور بأنظمة لامساواة متعاقبة...بالطبع اختلف شكل الامتلاك في القدم عن مثيله في الوقت الراهن. ولكن ظل جوهر الامتلاك كما هو منذ الزمن العبودي الأول في ظل الإمبراطوريات القديمة حتى زمن العولمة المحكوم بإمبراطورية مالية احتكارية. ففي البدء مارست الأنظمة الاختلالية حق امتلاك البشر، فالأراضي، فالثروات الطبيعية، فالأرصدة المالية، والوحدات الانتاجية المختلفة، والمعرفة، والتكنولوجيا(في ظل مجتمعات متعاقبة: العبودية فالزراعية فالصناعية فالمعرفية والتكنولوجية)...حيث تتبع "بيكيتي" كيف تم ذلك: هل بالامتلاك القسري بالقوة أو بالامتلاك الممنوح أو كلاهما...ما أدى إلى اللامساواة التاريخية الراهنة بين الشمال والجنوب وبين القلة الثروية العالمية/المحلية والأغلبية من المواطنين...
صحيح أن ليبرالية الثورة الفرنسية قد مثلت نقطة تحول في مسيرة أنظمة اللامساواة الهندية والصينية والعربية والأوروبية الوسيطة أو بحسب "بيكيتي" "المجتمعات العبودية القديمة والمجتمعات الاستعمارية الوسيطة"؛ وذلك بكفالة "حق التملك للجميع" دون تمييز ما خلق مسارا اقتصاديا عالميا جديدا في القرن العشرين شهد صراعا محتدما لتفكيك أنظمة اللامساواة من قبل: أولا: "الليبرالية الاجتماعية"، بحسب الدكتور وحيد عبد المجيد، التي عنيت بتأمين الإنصاف لكل المواطنين من خلال التوزيع العادل والرعاية الاجتماعية إضافة للحريات والتي تمثلت في الكينزية ودولة الرفاه. ثانيا: "التحالف المساواتي"، إن جاز الوصف، والذي تمثل في الاشتراكية الديمقراطية ويسار الوسط في أوروبا الغربية والدول التي حاولت أن تطبق الاشتراكية في وقت من الأوقات. ثم تجددت محاولاته مع النزعة المواطنية الجديدة من حركات وأحزاب.
إلا أن "الديناميكية اللامساواتية"؛ بحسب "بيكيتي"، استمرت وتفاقمت وأوصلت العالم إلى أن 1% من سكان العالم باتوا يملكون ما يقرب من 50% من الثروة العالمية. وهو وضع خطير ينذر "بفناء الكوكب" بحسب "بيكيتي"، لأن أنظمة اللامساواة لن تكون قادرة على الصمود أمام أية كارثة عالمية وهو ما أكده في الفصل الأخير من مؤلفه المعتبر...وأكده في حواره لمجلة "النيويورك" في يوليو الماضي في ظل التأكد من فداحة الجائحة الفيروسية على الاقتصاد العالمي، ذلك بأنه لا مناص من التضامن لبناء "المجتمع العادل" “Just Society”؛ ونتابع في مقالنا القادم مكونات البناء الذي يقترحه "بيكيتي"...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern