(1) «السيرة الذاتية الحقيقية: الصدق والجرأة»
السيرة الذاتية هى نوع من أنواع التعبير عن الذات. وبحسب أحد أهم منظرى هذا المجال «فيليب لوجون» (1938 ــ ) فى كتابه المرجعى: «الميثاق الأوتوبيوجرافى»؛ الصادر مطلع السبعينيات، بأنها: «حكى استعادى يقوم به شخص واقعى عن وجوده الخاص، وذلك عنما يركز على حياته وحده، وعلى تاريخها».. وتقاس مدى جودة السيرة الذاتية بمدى التطابق بين: «السرد والمؤلف وشخصيته».. أى لا بد من أن يتوفر التطابق بين الحدث/الأحداث وبين التاريخ المعروف عن المؤلف وشخصيته خلال فترة زمنية محددة أو ممتدة. ويشدد «عبد اللطيف الورارى» فى تقديمه لكتاب «ترجمة النفس: السيرة الذاتية عند العرب ــ 2019»، على أن «إدماج المؤلف، أو كاتب السيرة الذاتية، معلومات بيوجرافية حقيقية فإن ذلك ليس يكفى: ينبغى لأن يحصل هناك اتفاق مسبقا بين المؤلف وقارئه. فالمؤلف يلتزم بأن لا يقول إلا الحقيقة، ويكون مؤتمنا فيما يخص حياته. فى مقابل ذلك، يُقر القارئ بأن يمنحه ثقته«. إن هذا الالتزام الذى يؤكد فيه المؤلف على التطابق بين كل من السارد والشخصية هو الذى يحقق «الميثاق»، أو العهد، بلغة «لوجون»، بين الشخصية وبين السارد سواء كتبها صاحب السردية أو رواها مؤلف آخر عنه.. وما يزيد من جودة السيرة الذاتية هو حضور المعالجة الملائمة التى تحافظ على مصداقيتها وتؤمن لساردها مساحات أكثر من الجرأة لطرق مناطق منها ما هو: أولا: مسكوت عنه، وثانيا: محرم، وثالثا: ذات قداسة ما،.. ما يضمن سيرة ذاتية حميمية وحقيقية.
(2) «الخوض والكشف»
إن عالم السير الذاتية هو عالم من الأحلام المكثفة التى جسدتها فى الواقع شخصيات من «لحم ودم».. أحلام نتمنى أن نعيشها. وأحلام ثانية تعلمنا وتوجهنا. وأحلام ثالثة تفسر لنا الكثير مما هو غامض فى الحياة الإنسانية.. أحلام تصيبنا بالدهشة لما أحاطها من ملابسات معقدة وظروف شائكة. ما يجبرنا على تأملها ويلزمنا بالتفكير فى المستقبل.. الأمر الذى جعل، بحق ــ بحسب أحد الباحثين بتصرف ــ السيرة الذاتية: «أكثر الظواهر الإبداعية جمالا».. ذلك لأنها تدخلنا عوالم حية. وبالرغم من أننا نُدرك أنها عوالم حية. وربما نعرف جانبا مما يتم سرده إلا أن المعالجة المبدعة ولا شك تزيد من قيمتها.. وظنى أنه بقدر ما المعالجة تكون جدية وجديدة بقدر ما تزيد مساحات الخوض فى عمق الذات لصاحب السيرة. ومن ثم الكشف عن مناطق وزوايا جديدة ومستجدة تزيد من قيمتها السيرة الذاتية...ويحضرنى، هنا، فيلمان تناولا شخصية رئيس وزراء انجلترا «ونستون تشرشل» (1874 ــ 1965)، شاهدتهما فى فترة العزلة، هما: فيلم «أوقات حالكة» (2018) وقبله فيلم «تشرشل»؛ حيث ناقشا نفس الفترة الزمنية من الحرب العالمية الثانية. فبالرغم من اختلاف المعالجة إلا أنهما نجحا فى تقديم صورة أكثر عمقا لشخصية «تشرشل» كذلك تفصيلا أكبر للحظة تاريخية فاصلة فى تاريخ أوروبا والعالم.. كما يحضرنى أيضا نصا كتبه «كافكا» (1883 ــ 1924)؛ فى صورة رسالة إلى والده يشرح فيها بعمق ودقة طبيعة علاقته بوالده، كاشفا عن حقائق نمط من العلاقات التى تسود بين كثير من الآباء وأبنائهم يتم التواطؤ فى الإفصاح عنها لصالح ما هو شائع وتقليدى فى هكذا علاقة.. ولكن «كافكا» آثر الصراحة. فنطقت ذاته بكل ما يجب أن تنطق به بلغة أدبية غاية فى العمق، مثيرا الكثير من الإشكاليات النفسية والاجتماعية التى تصاحب علاقة تربوية شائكة بين أب وابنه.. ويبدو لى أن «كافكا» كان واعيا بما كان يكتب انطلاقا من مقولته التى تصدرت آثاره الكاملة والتى طالب فيها الكتاب بأن تكون كتبهم فؤوسا تكسر البحر المتجمد فينا.
(3) الذات الناطقة بالحق
ليست كل ذات ناطقة قادرة على إحداث التغيير.. وحدها الذات الناطقة بالحق: الصادقة والجريئة والمتعمقة والمغامرة.. ونشير هنا إلى أكثر من سيرة ذاتية تم تجسيدها سينمائيا وتليفزيونيا لشخصيات مثل: المغنى العالمى الراحل إلفيس بريسلى، والكوميدى الشهير الراحل بيتر سيلرز، وللسياسى الثعلب ديك تشينى، والموسيقى المعاصر إلتون جون، والملك جورج السادس المتلعثم، كانت مثالا عمليا «لاستنطاق الذات» دون سقف أو حدود.. ما يتيح لنا أن نعيش أحلاما حية تدهشنا.. ونواصل الأحلام الواعية.