سنة 2020، هي السنة التي سيتم تسجيلها في سجلات التاريخ بانها "سنة الجائحة الكبرى"...أي السنة التي اجتاح فيها وباء "الكوفيد ــ 19"(الاسم المُستجد للكورونا) العالم مهددا، بحق، حياة سكانه...
لم تنج دولة من دول العالم، أيا كان موقعها في سلم التنمية، من شر الجائحة التي شملت ــ ليس صحة البشرية فقط ــ وإنما مجمل عناصر حياة الإنسان/المواطن على سطح الكوكب... كما أوضحت الجائحة "انكشافا" حقيقيا على جميع الأصعدة يشير إلى مدى هشاشة النظام الاقتصادي العالمي القائم منذ عقود والذي يقوم على قيم غير عادلة تجلت في ضعف الأنظمة الصحية والرعائية والحمائية والوقائية في كل دول العالم دون استثناء...وهو ما أكده الواقع دون الخوف الوقوع في فخ التعميم...
وفجأة، أصبح العالم في سنة 2020 أمام واقع جديد مغاير كليا عما قبل بفعل: أولا: العزل الإجباري الذي جاء على حساب الحياة الإنسانية الطبيعية من علاقات اجتماعية متنوعة، وفعاليات ونشاطات سياسية ومدنية وثقافية وخدمية وتنموية متعددة. وثانيا: الانكماش الاقتصادي الحاد ــ غير المسبوق تاريخيا ــ والذي يقدر بحسب المؤسسات الدولية (برامج وادارات الامم المتحدة والبنك الدولي، والمنتديات النوعية المختلفة) بأن الاقتصاد العالمي سينكمش بنسبة تزيد عن 5%لسنة 2020(ربما تقارب ال 10 % إذا ما تجدد هجوم الجائحة في موجة ثانية مع حلول الخريف). كما قدرت الدوائر الاقتصادية المعنية حجم الخسائر الاقتصادية التي سببتها "الكورونا" بما يقرب 10 ترليون دولار (نعم ترليون ويساوي ألف مليار) وهو ما يعادل حوالي خمسة أعوام من الربح. وأن الناتج المحلي الإجمالي لبلدان العالم سوف يتراجع تراجعا حادا بنسب متفاوتة بحسب الوضعية الاقتصادية التي كانت عليها كل دولة قبل الجائحة. ومن ثم يتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي في البلدان المتقدمة إلى سالب 5٪، بينما سينكمش ناتج البلدان النامية بنسبة 0.9٪. ويواكب ما سبق تناقصا في تدفقات التحويلات العالمية بنسبة 20%، كذلك الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 40%...ولعل من أخطر تداعيات الجائحة الشريرة والتي سوفلا يكون لها أثارا اجتماعية شديدة الخطورة هو توقع أن ينضم 100 مليون مواطن من سكان العالم إلى نادي مواطني فقراء العالم ــ الذين تبلغ نسبتهم ما يزيد على 40% من سكان العالم ــ خاصة وأن هناك ما يقرب من 500 مليون شخص سيفقدون وظائفهم. والأهم هو تعطل عمليات التجارية والاقتصادية الدولية البينية لاقتراب الدين العالمي رقم ال 260 ترليون دولار.
الخلاصة، أننا أمام ما يمكن أن نطلق عليه زمن: "الانكماش الأكبر" حجما في تاريخ النظام الاقتصادي العالمي...والذي سيكون ــ حتما ــ "الأضخم" تأثيرا على حياة مواطني العالم...ما دفع "كلاوس شاوب" مؤسس "منتدى دافوس" العالمي تخصيص لقاء المنتدى في دورته السنوية القادمة في 2021 لمناقشة كيفية "إعادة الضبط الشامل للنظام الاقتصادي الاجتماعي العالمي"...وبالطبع لن يغيب عن إدراك قارئنا الحصيف الانتباه الطيب لمؤسس "دافوس" لأهمية مقاربة البعد الاجتماعي في مناقشة مستقبل النظام الاقتصادي العالمي...إلا أنه وفي نفس الوقت يثير تعبير "إعادة الضبط" إلى الكثير من الجدل...ماذا نقصد بذلك؟
بداية نؤكد على الدلالة الإيجابية لهذا الجدل لأنه يعكس لنا أنه في مقابل "انكماش" الاقتصاد وتراجع عملياته المختلفة: الانتاجية والسلعية والخدمية والكشفية التنقيبية والمالية السوقية، وما سينتج عن مجمل ما سبق من تداعيات جسيمة وفادحة في البنية المجتمعية لإنسان/مواطن اليوم والأجيال القادمة...انطلقت عملية "انتعاش" فكري وعلمي حيوية ومركبة في محاولة الاستجابة للواقع المجتمعي الجديد قيد التشكل بسبب ما أحدثه التلاقي الذي جرى بين "الجائحة الفيروسية الإبادية الشريرة" و"الجائرة الرأسمالية الكارثية الشرسة" وأوصل العالم إلى "التوقف عن الدوران" وأدخل الإنسانية لحظة "لايقين" تاريخية...ما يحتم ليس ــ إعادة الضبط ــ وإنما إعادة النظر التامة في مستقبل مواطني العالم في إطار نظام أكثر عدلا ومساواة وانصافا وتحررا...ما يحقق لهم حياة كريمة بالفعل وبالحق وبالإنجاز لا بالقول والباطل والمجاز...
في سياق الانتعاش الفكري "خَلَقَتْ" ماكينة العقل الإنساني توجهين فكريين فاعلين نرصدهما كما يلي:
الأول: تصويبي؛ يؤكد على فداحة ما جرى وأن هناك ما يؤثر على الواقع لمدة عقد آت من الزمان. وأن التعافي ممكن مما أصاب البشرية من خلال تصويب النظام الاقتصادي ومعالجة الثغرات التي وضحت جلية. وبغض النظر عن إذا ما كانت الجائحة هي سبب الأزمة الاقتصادية أو إنها كشفت عن العيوب البنيوية الكامنة فيه إلا أن المهمة الملحة هو كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي مرة اخرى من خلال عمليات تصويبية متنوعة...
أما التوجه الثاني: جذري؛ يدرك بأن واقعا مجتمعيا جديدا بات قيد التشكل بسبب الانكشاف التام لواقع دأبنا على التعايش معه ظنا منا أنه الأفضل. ومن ثم تبني قيمه باعتبارها الأمثل...لذا سرعان ما تبين لنا هشاشة الواقع وزيف القيم مع حلول الجائحة. وكيف أن أحوال الغالبية من مواطني العالم ليست على ما يرام. وأن النظام الاقتصادي السائد على مدى مائتي سنة كان دائم التعرض للأزمات خاصة في طبعته المسماة "بالليبرالية الجديدة" المطبقة منذ سنة1980. وأنه في المجمل أدى إلى أوسع وأفدح تفاوت بين قلة وأغلبية من البشر عرفه التاريخ الإنساني...نعم لم تميز الجائحة الفيروسية الشريرة بين البشر (الغني وصاحب المكانة وبين الفقير والمهمش)...إلا أن الجائرة الرأسمالية الشرسة فرقت بين المواطنين ولم تستطع أن تؤمن نظم الرعاية والحماية والعلاج والوقاية المطلوبة دون تمييز للجميع...
المحصلة، أن انكماش الاقتصاد قابله انتعاش الفكر على جميع المستويات: الفلسفية واللاهوتية والسياسية،...،إلخ، نتابع في مقالنا القادم، جانبا لأهم ما نتج عن الانتعاش من أفكار وتوجهات...