كنت أتابع نقاشا دائرا حول "مستقبل الليبرالية الجديدة" مع تفاقم أزمتها المركبة من جراء اخفاقاتها الممتدة على مدى أكثر من عقدين من جهة. وتداعيات "الكورونا" من جهة أخرى...
وذلك من خلال كتب ودراسات وحوارات مع رموز فكرية معتبرة مثل: "أنطونيو نيجري" و"مايكل هاردت"(صاحبا المجلد المرجعي الأكثر من عبقري: "الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة") و"مايكل مان"(صاحب موسوعة مصادر القوة الاجتماعية) و "برانكو ميلانوفيتش" صاحب المؤلف الصادر مؤخرا: "الرأسمالية وحدها: مستقبل النظام الذي يحكم العالم"...وكلها تناقش احتمالية استمرار "الليبرالية الجديدة" على توجيه اقتصاد العالم؟...
في إطار متابعتي لهذا النقاش، تذكرت العالم الأصيل والمناضل الجليل الأستاذ الدكتور فؤاد مرسي(1925 ــ 1990) أحد رموز مصر الفكرية والسياسية الكبيرة...لماذا تذكرته في هذا السياق؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، نشير إلى أن تذكر "فؤاد مرسي" قد نبهني بأن هذه الأيام تحل ذكرى رحيله الثلاثين...فلقد غادرنا في سبتمبر سنة 1990...كذلك ذكرى ميلاده ال95..ونظرا أن أستاذنا الكبير "محمد سيد أحمد" قد أغناني الكتابة عن شخص فؤاد مرسي واصفا إياه "بالاستقامة"، التي تعني النزاهة والصرامة والانضباط والالتزام، في المجالين الاجتماعي والوطني(راجع مقدمة كتاب "معارك فكرية" التي تضم مقالات "الرجل اليساري المستقيم" بحسب عنوان المقدمة التي كتبها "محمد سيد أحمد"...لذا سأركز على ما يمكن أن نطلق عليه "الأصالة والاستدامة الفكرية" للدكتور "فؤاد مرسي"...وهو ما سيجيب عن سؤال لماذا تذكرته في سياق متابعتنا للنقاش الدائر حول: "مستقبل الليبرالية الجديدة"؟...
نتحدث أولا عن الأصالة والاستدامة الفكرية للمفكر؛ ما نقصده بالأصالة هو مدى تميز الفكر المنتج بالابتكار والجدة والاكتشاف. فكل ما يطرحه المفكر من أفكار يماثل الأحجار الكريمة بتكويناتها الجمالية عالية الجودة...أما الاستدامة فتعكس كيف أن هذه الأحجار الكريمة/الأفكار ــ بالرغم من مرور الزمن ــ قادرة على أن تزداد متانة وقيمة وجمالا وأهمية...وأن تصبح عابرة للزمن حية فتبقى مؤثرة ومفيدة وخالدة...ومن ثم حاضرة للاشتباك الفاعل والإيجابي في الحاضر من أجل استشراف المستقبل...
في هذا السياق، نتحدث ثانيا عن العمل الخالد "لفؤاد مرسي"؛ "الرأسمالية تجدد نفسها ــ مارس 1990، 500 صفحة"؛ باعتباره من المؤلفات "الأصيلة والمستدامة"...الجديرة بالاستعادة في إطار النقاش الدائر حول مستقبل الرأسمالية في طبعتها الليبرالية الجديدة...وأي نظام اقتصادي عالمي علينا تشكيله في ظل لحظة تاريخية وصفناها من قبل "بالفائقة والفارقة"...
يقول "فؤاد مرسي" في كتابه: الأصيل المستدام؛ يبدأ المؤلف بتحديد أين تقف الرأسمالية المعاصرة؟. ويجيب بأن: "الرأسمالية استطاعت أن تجدد قواها. بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية"...فعلى الرغم من أن الرأسمالية "شهدت تقلص قاعدتها الانتاجية، وحرمتها من الخامات الطبيعية الرخيصة التي اعتمدت عليها في الماضي، وأصبحت معامل البحث والتطوير هي المستودع السحري الذي لا ينفذ للخامات والمنتجات على السواء"...وإذا "كانت قاعدة الرأسمالية قد تقلصت جغرافيا خلال القرن الحالي(العشرين) فإنها قد أثبتت مع ذلك أنها أكثر قدرة على الحياة مما كان يتصور خصومها. لقد تغلبت على أخطر التناقضات في اللحظة المناسبة. وهكذا نواجه الآن رأسمالية معاصرة تتميز بالاستجابة الحيوية لمقتضيات العصر، استطاعت أن تجدد قواها الإنتاجية وأن تعيد علاقاتها الانتاجية حتى لا تفلت من سيطرتها، كما استطاعت أن تستعيد أكثر مستعمراتها القديمة لتظل رغم استقلالها أطرافا لمراكز الرأسمالية الرئيسة...وفي ظل هذه الثورة العلمية لم يعد الوعاء القطري كافيا لتوسيع الإنتاج، ولم تعد السوق القُطرية(المحلية) ــ مهما كان اتساعها ــ كافية لاحتواء حركة السلع والخدمات ورأس المال والعمل. وهكذا يجري...تدويل مضطرد للحياة الاقتصادية في كل بلد على حدة...ويكتسب رأس المال طابعا دوليا، وتنمو المشروعات والمصارف المتخطية للقوميات لتصبح هي القوة المحركة الجبارة للتركيز الصناعي والمالي في الأسواق العالمية"...
والمحصلة، تزايد صعود"...الرأسمالية الدولية...فأعادت تشكيل الاقتصاد على المستويين المحلي والدولي لتجعل منه اقتصادا رمزيا"...كذلك باتت "الجماعات المالية الدولية أقوى من الحكومات القائمة، وصارت تُسبغ عليها طابعا محافظا في السياسة يقابله طابع انكماشي في الاقتصاد"...
إن ما طرحه الدكتور فؤاد مرسي"، في عام 1990، تحقق بالتمام تحت مظلة العولمة التي سادت الكوكب مع منتصف تسعينيات القرن الماضي. ولم يكتف بذلك فقد عرض لتداعيات الرأسمالية المالية الجديدة وسوءاتها وما ستحدثه من أزمة مركبة هي "مزيج من أزمة دورية وأزمات هيكلية عديدة"...ما تجسد بالتمام في أزمة 2008 الاقتصادية الأخطر عبر العصور وما نتج عنها من أزمات بنيوية أدت لسياسات تقشف مؤلمة زادت من الفقر العالمي وأضرت بوضعية الطبقة الوسطى في العالم، وخلقت تفاوتات حادة بين القلة الثروية والأغلبية من المواطنين في جميع المجالات في شتى أنحاء العالم...إنها مرحلة ــ بحسب فؤاد مرسي ــ "مرحلة ما بعد الصناعة"...وهي مرحلة مركبة وغاية في التعقيد...فماذا يعني بها "فؤاد مرسي"؟
يقصد برأسمالية ما بعد الصناعة بأنها نتاج "...رأسمالية مرت على التوالي بمراحل الرأسمالية التجارية (في القرون الوسطى)، فالرأسمالية الصناعية (بداية من القرن ال18)، فالرأسمالية المالية(رأسمالية الأسواق والبورصات المعولمة)،..."...وأنها بلغت الآن مرحلة أرقى من تطوير قوى الانتاج استنادا إلى العلم والتكنولوجيا. ولا يعني هذا أن الرأسمالية قد تخلت عن التجارة أو الصناعة أو المال"...
ويخلص إلى أن رأسمالية ما بعد الصناعة ــ رغم تقدمها وما ستفرضه من تحولات جذرية في بنى المجتمعات المعاصرة ــ سوف يكون لها آثارها الضارة على غالبية مواطني العالم وعلى البيئة...وهو ما يفصله "فؤاد مرسي" في عمله الرؤيوي الاستشرافي الذي لايزال صالحا لكي نفهم ما يجري اليوم من نقاشات، نتابعها في مقال الأسبوع القادم...رحم الله نموذج: "الاستقامة الوطنية والاستدامة الفكرية... العالم والمناضل فؤاد مرسي"...