عَقْد المراجعة التاريخية للرأسمالية

هل تستمر طائرة الرأسمالية في التحليق؟؛

في مطلع هذا العام، خصصت دورية "الفورين أفيرز" (عدد يناير/فبراير 2020)، ملفها الرئيسي حول "مستقبل الرأسمالية في العالم"...قدم محرر الدورية الملف بقوله بأن "الرأسمالية قد بزغت كنظام اقتصادي في القرن الثامن عشر، وأقلعت في التاسع عشر، وهيمنت على العالم على مدى عقود القرن العشرين". وكانت وعودها لمواطني العالم أشبه "بصفقة فاوستية"(نسبة لأسطورة فاوست الشهيرة)، خلاصتها: "الرأسمالية تمنح الأفراد الثراء والحرية من خلال الاستقرار والنظام والوحدة" مقابل التنازل عن مواطنيتهم ويصيروا مستهلكين "...

ولكن هذه الصفقة باتت فاسدة وفي حاجة إلى مراجعة عميقة بعد أن تعرضت الرأسمالية لتصدع بنيوي من جراء أزمات متكررة حادة كانت ذروتها في سنة 2008. وهي الأزمة التي كشفت عن الآتي: أولا: التزايد الدائم في نسبة الفقر. ثانيا: تزايد عدد من يعيشون تحت خط الفقر. ثالثا: تنامي الفجوة بين القلة الثروية وسيطرتها على أكثر من 75% من الثروات العامة ومكاسبها مقارنة بالأغلبية المواطنية التي تشكل أكثر من 85% من إجمالي سكان العالم التي لا تستفيد إلا على ال 15% المتبقية من هذه الثروات وعوائدها. وهي الظاهرة التي توافق على وصفها الكثيرون "باللامساواة التاريخية"؛ فأصبحت عنوانا للعصر...ما دفع إلى انطلاق حالة من حالات المراجعة الشاملة للنظام الاقتصادي السائد منذ قرون، والذي أخفق في الوفاء بوعوده، في محاولة لاستشراف المستقبل يحكمه نظام اقتصادي أكثر عدلا.

وعلى مدى عَقْد (عَشْرُ سَنَوَات) من الزمان، أي في أعقاب الأزمة الاقتصادية الأسوأ في 2008، انطلقت المراجعة التاريخية الأكبر في تاريخ البشرية في ظني ــ على المستويين المواطني والفكري.

أولا: على المستوى المواطني(القاعدي) والذي يتمثل في النزعة المواطنية الممتدة في دول الكوكب من خلال الحركات المطالبية والنوعية والفئوية المتنوعة والتي تعكس موقفا من الخيار الاقتصادي ما بعد الحرب العالمية الثانية عامة، وطبعته الليبرالية الجديدة، خاصة، ونخبتها ومؤسساتها. وقد تناولنا المراجعة المواطنية القاعدية ــ تفصيلا ــ من خلال سلسلة مقالاتنا المعنونة: المواطنيزم...

ثانيا: على المستوى الفكري والسياسي سواء ممن يحسبون على النظام الاقتصادي المتصدع أومن معارضيه على السواء...فمن داخل المعسكر الرأسمالي نذكر بالمجموعات الأربع التالية: أولا: ما أسميه مجموعة نوبل الاقتصادية؛ التي قدمت نقدا معتبرا للسياسات النيوليبرالية مثل : "أمارتيا سِن" (نوبل 1998)،و "جوزيف استيجلتز"(2001)،و"بول كروجمان" (2008)، و"آنجَس دايتون"(2015)... ثانيا: بعض رجال الأعمال مثل: "جورج سوروس" صاحب كتاب: "أزمة الرأسمالية العالمية"؛...ثالثا: بعض المفكرين السياسيين المتعاطفين مع الرأسمالية مثل "فرانسيس فوكوياما"(الذي أعلن انتصار الرأسمالية عقب تفكيك الاتحاد السوفيتي في كتابه "نهاية التاريخ" وتراجع عن ذلك في دراسته "نهاية الريجانية" لاحقا...لذا أطلقنا عليه كاتب النهايات)...رابعا: بعض السياسيين الذين عملوا في الإدارة الأمريكية مثل "روبرت رايش"(عمل وزيرا للعمل في إدارة كلينتون)، وألف كتاب: "السوبر رأسمالية ــ 2007"،...

 في المقابل كان المفكرون المعارضون للرأسمالية، بتجليها النيوليبرالي، ممن يمكن أن نصنفهم بالنقديين واليساريين مثل: "أنطونيو نيجري" و"مايكل هاردت"، و"إيمانويل والرشتين"، و"دافيد هارفي"، و"توماس مان"، و"توماس بيكيتي"،...

    يتوافق جميع من ذكرتهم سابقا على أن الرأسمالية تعاني أزمة بنيوية حادة باتت مزمنة وتبعث على "الانزعاج الشديد" لأنها تؤذن بتداعيات كثيرة في قادم الأيام...ويشير أحدهم إلى أن "العقود الثلاثة أو الأربعة القادمة قد يجد كبار رأسماليي العالم أن من المستحيل عليهم أن يتخذوا القرارات الاستثمارية المعهودة نفسها". نظرا لأنه من المتوقع وأن يصلوا إلى "مرحلة يجعلون فيها الأسواق العالمية تزدحم بأكثر من طاقتها ويجعلون أنفسهم تحت ضغوط متزايدة من جميع الجهات نتيجة التكاليف الاجتماعية والبيئية التي تؤدي إليها أعمالهم التجارية والمالية" تحت مظلة العولمة (ونشير هنا إلى كيف كشفت الجائحة عن أن خيارات النظام الاقتصادي العالمي السائد قد انعكست سلبا في التعاطي مع تداعيات "الكورونا" وأكدت مدى التصدع البنيوي فيه)...إنها الأعمال التي تدار بواسطة قلة ثروية احتكارية لا تأبه بالأغلبية من المواطنين...ما دفع الاقتصادي المرموق "برانكو ميلانوفيتش" في أكثر من دراسة يطالب بضرورة أن تطور "رأسمالية القلة الثروية الاحتكارية" بتطوير نفسها نحو ما يطلق عليه "رأسمالية الناس" “People’s Capitalism”؛ حيث تتم مراعاة العدالة الاجتماعية بما يضمن توزيعا عادلا للموارد لكل طبقات الجسم الاجتماعي.(راجع كل من "الرأسمالية وحدها ــ 2019" و "اللامساواة العالمية ــ 2016")...

في هذا السياق، أجريت دراسات معمقة نظرية وميدانية حول: طبيعة الأزمة البنيوية للنظام الاقتصادي العالمي الراهن، وما يمكن أن نطلق عليه جغرافيا الأسواق في العالم وأثرها السياسي والاجتماعي إضافة إلى الاقتصادي ــ بطبيعة الحال ، ما آلت إليه الأجهزة البيروقراطية في ظل الليبرالية الجديدة، الآثار الاجتماعية لسياسات التقشف، مراجعة الأنظمة الضريبية والمالية المختلفة وآثارها على الاجتماعية على المواطنين، لماذا وصلت البشرية إلى هذا الحد من اللامساواة على مدى تاريخها، ولماذا تراجعت الخدمات الاجتماعية، لماذا تراجعت ثقافة التوفير والادخار لصالح ثقافة الاستهلاك، لماذا انتكس مشروع الرفاه بتطبيقاته الرأسمالية والاشتراكية والعالمثالثية، لماذا تراجعت الطبقة الوسطى عالميا وتداعيات ذلك على أرض الواقع، ولماذا تزايدت نسبة الفقر في كل المجتمعات دون استثناء، هل ستتمكن الرأسمالية من الخروج من مأزقها الراهن بالتقنيات التكنولوجية للثورة الصناعية الرابعة كما جرى من قبل بحسب فؤاد مرسي مع بدء انطلاق عصر العولمة في تسعينيات القرن الماضي ما مكن الرأسمالية من أن تجدد نفسها أم أنه سيكون مهربا غير ناجع هذه المرة، ...،إلخ،؟...

هذه الأسئلة وغيرها الكثير يمثل بنود المراجعة التاريخية للنقاش الدائر حول مستقبل الرأسمالية...وهو نقاش يتطور ويزداد عمقا مع تنامي التحديات والأزمات الكوكبية...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern