مع بدء العدل التنازلى للانتخابات الأمريكية “نوفمبر 2008” بدأت أصوات تعلو ناقدة الدور الذى لعبه المحافظون الجدد على مدى دورتى حكم الرئيس بوش “2001-2008” فمنذ أن اصدر فوكوياما كتابه “ما بعد المحافظون الجدد” الصادر فى 2006 توالت الكتب النقدية المهمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: “العقيدة المميتة” والوحش على اليمين” التى تفند افكار هذه المجموعة وممارساتها وتطرح سؤالاً محورياً هو أى مستقبل ينتظر المحافظين الجدد، وهل سوف يخفت تاثيرهم فى ظل ادارة ديمقراطية؟
يمكن القول ان الميلاد الحقيقى للمحافظين الجدد يعود الى فترة الحرب العالمية الثانية، على عكس ما هو شائع فى الأدبيات العربية حيث يربطون ظهورهم بإدارة ريجان “1980” وقد مرت مسيرتهم بثلاث مراحل وذلك كما يلى:
أولاً: الانقلاب على دولة الصفقة الجديدة الروزفلتية، بسبب النجاح الداخلى النسبى الذى حققه الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت “1933-1945” فى تجاوز أزمة الثلاثينات الاقتصادية التى ايدها العمال NEW DEAL الشهيرة من خلال ما عرف بسياسة الصفقة الجديدة وملايين من المزارعين وموظفى الحكومة وجميع الجماعات العنصرية والاجتماعية، بالاضافة الى عدد من المنظمات المدنية، وأيدها الليبراليون واليساريون فى امريكا، وعليه وخوفاً من هذا الحشد شكك رجال المال والسلاح فى كثير من الاصلاحات التى أنجزها روزفلت ووصفوه بالرئيس الأحمر، وفى جلسة ضمت 15 شخصاً فى وزارة الخارجية عقدت عقب وفاة روزفلت، شارك فيها ممثلون لوزارة الحرب واصحاب المصارف الكبرى ورؤساء الشركات الضخمة مثل جنرال موتورز، اتفقوا على تصحيح المسار وذلك من خلال أفكار مدرسة شيكاغو التى كانت منحازة للاقتصاد الحر، ويمكن اعتبار ماحدث إرهاصة تبلور تيار المحافظين الجدد.
ثانياً : مقاومة “الكابوس الأحمر” مأزق اليمين الامريكى، تزامن مع هذا الانقلاب الاقتصادى الخوف من الاتحاد السوفيتى الذى وصف بالكابوس الأحمر، الذى لا بد من مواجهته وتنقية امريكا من اى شخص تراوده أفكار تميل الى اليسار أو الى الفكر الليبرالى بالمعنى الكلاسيكى، وعليه انطلقت حملة شرسة تهاجم كل من يحاول الدفاع عن اى حقوق مدنية أو مصالح العمال أو يدعو الى اعادة توزيع الموارد او يدافع عن السود واتهامه بأنه شيوعى وهى الحركة التى عرفت بالمكارثيه، وقد انتقل هذا الصراع الى داخل الحزب الجمهورى مع نهاية الخمسينات ومطلع الستينات حيث عرفت هذه المرحلة بمرحلة “الرعب الكبير” سواء بسبب العدو الخارجى “الاتحاد السوفيتى” أو الذى قد يأتى من الداخل “المدافعون عن الحريات والحقوق والعدل”
ثالثاً : حملة بارى جولدووتر القاعدية ضد مشروع المجتمع الكبير، يمكن اعتبار حملة السيناتور الشاب بارى جولدووتر للحصول على ثقة الحزب الجمهورى للترشح للرئاسة فى العام 1964, RIGHT التاسيس الحقيقى لتيار اليمين المحافظ متجاوزة التوجهات الليبرالية التقليدية المعروفة للحزب الجمهورى، ويعد جولد روتر أول من صك تعبير ” Right Turn من خلال كتابه “ضمير محافظ” وفيه يرفض أول من صك تعبير “المحافظة النزعة الاجتماعية لكيندى والاهتمام بالاقليات غير البيضاء، وعليه نجده وقد حمل بشدة على مرسوم “الحقوق المدنية” وبرنامج “الحرب على الفقراء” أو مشروع “المجتمع الكبير” الذى أطلقه جونسون .
ومع مطلع السبعينات اشتد عود “المحافظون الجدد” وانتشروا فى شتى المواقع السياسية والمدنية، وقاموا بتأسيس العديد من المؤسسات مثل: مؤسسة التراث، والتجمع المحافظ واللجنة القومية المحافظة للعمل السياسى، كذلك العديد من الدوريات المؤثرة، هذا الانتشار يجعلنا نؤكد أن هذه المجموعة هى اكثر من ان تعامل كمجموعة متشددة داخل الإدارة الحالية، وانما باعتبارها تياراً فكرياً يسلك كجماعة مصالح حظى بدعم المجمع العسكرى الصناعى التكنولوجى المالى ، ونجح فى استقطاب التيار الدينى المحافظ ليكون قاعدته الاجتماعية ويستفيد منه ككتلة تصويتية داعمة لسياساته لاحقا، كما قلب الخريطة الفكرية والسياسية الأمريكية، فبعدما كانت “الليبرالية” مع ملاحظة أن دلالة المفهوم أمريكيا تختلف عن دلالته الأوروبية – تاريخاً فى أمريكا تمثل قلب هذه الخريطة وعن يمينها التيار المحافظ وعن يسارها ما يعرف فى الادبيات الأمريكية “بالتيار الراديكالى” الذى يضم حركات المرأة والبيئة والحركات العمالية. استطاع أن يحل محل التيار الليبرالى فى القلب من هذه الخريطة الأمر الذى وصفه أحد الباحثين بالثورة المحافظة، باعتبارها الحركة التى أعادت تكوين أمريكا، وقد صاغوا رؤيتهم فى كثير من الكتابات لعل أشهرها مشروع القرن الأمريكى الجديد، واعادة بناء دفاعات أمريكا .
فى ضوء ما سبق، يمكن القول أن هذا التيار سيظل مؤثراً، سواء بقى الحزب الجمهورى فى الحكم أو جاءت الانتخابات بالديمقراطيين، خاصة أن المتابعة الدقيقة لاداء مرشحى الحزب الديمقراطى للرئاسة تقول انهم يغازلون الكتلة الدينية التصويتية التى تزيد على الثلاثين مليون صوت، وتتميز بانها تلتزم بالتصويت للمرشح الذى يتم الانفاق عليه .
ومن جانب أخر تشير حركة المصالح الاقتصادية الى صعوبة فك الارتباط بين السياسة وشبكة المصالح التى يضع مصالحها العليا المجمع العسكرى الصناعى التكنولوجى المالى، الامر الذى يلزم أن تستمر معه ما تعرف بديمقراطية القلة الثرية فنى بنية سياسية تتكون من جماعات المصالح واللوبيات “صناعة السلاح ، الدواء ، النفط تقوم بتوظيف جماعات الاقليات لتكون قاعدتها الاجتماعية “اللوبى اليهودى ، الكتلة الدينية” وهو ما يعنى أن تستمر العملية الديمقراطية تعبيراً عن القلة الثروية لنيل أصوات الكتل التصويتية، أى أن يبقى حاضر تيار المحافظين الجدد لفترة آخرى، إلى حين تنشط التيارات الآخرى وتستعيد الخريطة الأمريكية السياسية توازنها التاريخى .