فى إحدى المناسبات الاجتماعية دار الحديث حول احتفال النادى الأهلى بمرور مائة عام على تأسيسه, انبرى بعض الفتيان يتحدثون عن بطولات وأمجاد النادى. سعدت جدا بحماس هؤلاء الفتية, واكتشفت أثناء حديثهم أننا نعيش ما يمكن تسميته “بعقد الاحتفالات المئوية”, الأمر الذى شجعنى أن أثير فضولهم بسؤال عن عدد اليوبيلات المئوية التى احتفلت بها مصر أخيرا والتى ستحتفل بالعديد منها فى الأعوام المقبلة.
لم يكن الأمر سهلا, فقلت لهم لقد احتفلت مصر بالمئويات التالية: صناعة السينما, وتأسيس حى مصر الجديدة, وانطلاقة الجمعيات الأهلية فى شتى المجالات, ومئوية الإمام محمد عبده, وكتاب تحرير المرأة, وتأسيس الصحف والمجلات, وبداية إرهاصات الصناعة الوطنية , وتأسيس النقابات المهنية, كما نحتفل العام القادم بنشأة الجامعة المصرية, والمتحف القبطى, وستظل الاحتفالات مستمرة خلال الأعوام القادمة, وتتنوع, وسوف نحتفل بمئوية 1919, وإعداد أول دستور, وغير ذلك.
واستطردت, إن الهدف من هذا الرصد هو إدراك “دلالة” ماذا يعنى أن تتأسس فى مصر كل هذه الكيانات المؤسسية ذات الطابع المدنى الحديث, فى وقت واحد, وفى كل المجالات, كذلك ماحملته من قيم مدنية. فتأسيس ناد رياضى كالنادى الأهلى, فى هذا الوقت المبكر, لم يكن منبت الصلة عن الحالة المصرية العامة التى كانت تشهد تبلور مؤسسات حديثة فى المجال المدنى كانت جامعة للمصريين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعشائرية والقبلية. وهو الأمر الذى يجب أن تعرفه الأجيال الجديدة, وتتذكر هذه الحال بكل عناصرها من رياضة وعلم وسياسة وفن وأدب… الخ, وتفخر بها, وتستعيدها فى حاضرها, استعادة ليست كربونية, أى تكرارها كما هى, وإنما برؤى جديدة تتفق والعصر.
مما سبق ربما يكون من المفيد – من أجل الأجيال الجديدة – الدعوة إلى إعلان العقد القادم عقدا “لمئويات المدنية المصرية”. فى إطار هذا العقد تتبنى الدولة بمؤسساتها والمجتمع المدنى بكياناته حملة متعددة الاتجاهات: ثقافية وإعلامية وعلمية وتعليمية, تهدف إلى “تجديد المدنية المصرية”, وذلك من خلال القراءة النقدية للخبرة الوطنية فى تكوين البنية الأساسية للدولة المدنية الحديثة, وضرورة التراكم على هذه الخبرة المدنية: دولة ومجتمعا مدنيا. وأتصور أن وثيقة إعلان هذا العقد يجب أن تتضمن أسباب حدوث هذه الخبرة, وكيفية انطلاقها, والآثار التى ترتبت على تبلور هذه الخبرة فى إطلاق حركة نهوض وطنى شاملة على أرض مصر, والقيم التى حملتها, وماهية الصعوبات التى تعترضها, وسبل تجديدها. كذلك كيف كان لهذا النهوض المدنى المؤسسى أثره فى أن تلد مصر كوكبة متميزة من صانعى النهضة المدنية المصرية فى شتى المجالات من: فن وعلم وسياسة وأدب وصحافة وعمل اجتماعى وفقه واقتصاد ورياضة و…. الخ.
ولا شك أن الدرس المستفاد “الأساسى”, من هذه الخبرة التاريخية والذى ينبغى إدراكه, هو أن النهوض الوطنى المدنى قد أدى إلى تبلور “مدرسة قومية مصرية” فى الفن والعلم والسياسة والفقه,…الخ, وأن هذا النهوض الوطنى نتيجة تزاوج ناجح, نسبيا, بين التحديث والحداثة. التحديث الذى لم يتوقف عند إحضار الجديد فى المجالين التقنى والعلمى, كذلك خلاصة الفكر العالمى وإبداعات الفن الإنسانى أى كل ماهو حديث من اختراعات فى مجال العلم التطبيقى, وجديد من نظريات وأفكار من الخارج إلى الواقع المحلى, أى مجرد استيراد كمى, وإنما تفاعل الجديد المستورد مع التطور الذاتى ونعنى به الحداثة. ونقصد بالحداثة؛ لحظة الخيارالتاريخى للذات الوطنية الجماعية بضرورة التقدم والنهوض الشامل, اتسمت بأنها كانت, فى ظنى, إبداعية من جانب ونقدية من جانب آخر. إبداعية حيث حاول العقل الجمعى الوطنى أن يطرح أطروحات مبتكرة لتجاوز التخلف واقتلاعه من جذوره أخذا فى الاعتبار التراكم التاريخى الوطنى واستيعاب خبرات الآخرين بشكل مبدع. ونقدية بمعنى إسقاط البنى التى تعوق التقدم, ومواجهة الفكر الأسطورى والغيبى والخرافى, والتفاعل مع التطور الاجتماعى.
وبلغة أخرى ما ان تتوافر لدى الأمة الظروف الموضوعية من تبلور قوى اجتماعية وإرادة وطنية قادرة على استيعاب الجديد أى الحداثة, فإنه تزيد القدرة على الإبداع الذاتى أخذا فى الاعتبار كل ما هو “حديث لدى الآخرين” و “أصيل لدى الذات”. والعكس صحيح, فغياب القدرة الذاتية والتطور الذاتى أى, الحداثة, يجعل استجلاب الجديد من الخارج دون أسبابه مجرد حالة استهلاكية لأشياء أنجزت فى غير واقعنا, مثل الذى يستورد سيارة ولا تتوافر لديه البنية الأساسية من الطرق أو قانون للمرور أو ثقافة قادرة على التعامل مع المنتج المستورد, بالإضافة إلى عدم توافر المعرفة العلمية الخاصة بصناعة هذه السيارة, أو الوعى المطلوب لقبول هذه السيارة, إنه التحديث من دون الحداثة. ولكن ما ان تتوافر الحداثة, أى المعرفة العلمية بتفاصيل صناعة السيارة, وإدراك ضرورة توافر ثقافة مرورية و….الخ, يبدأ التطور الذاتى المحلى القادر على استيعاب هذا المنتج وتطويره وإبداع الجديد, كذلك لا يحدث أى صدام بين ثقافة السياق المحلى وما تحتاجه ثقافة تسيير السيارات التى تحتاج إلى طرق ومسارات معينة مخططة بطريقة معينة تختلف جذريا عن ثقافة “الركوبة” حيث السير على المزاج والتوقف والتحرك فى أى وقت, إنها المدنية فى مواجهة اللامدنية, ومن ثم تحقق التقدم من عدمه. التقدم الذى نجح فى تأسيس مدرسة قومية فى شتى المجالات. وأتصور أن هذه الأفكار, وغيرها جديرة بالتعريف, وتسليح ذهن ووجدان الأجيال الجديدة بها, فى مواجهة ثقافة غير مدنية تتسم بالقبلية والعرقية واللامؤسسية واللاعقلانية. هذا مانقصده بمصر المدنية والتى تحتاج إلى تجديد كى تستطيع مواجهة الفوضى اللامدنية.
فى ضوء ماسبق, كثير من الأفكار يمكن تنفيذها خلال هذا العقد, منهاك أفلام تسجيلية تؤرخ لمسيرة الكيانات المدنية التى تأسست وتشرح أهميتها فى تاريخ مصر وما أضافته, مناهج تعليمية تتضمن ماذا تعنى القيم المدنية الحديثة وتؤصل للدلالة التاريخية لتأسيس الكيانات المدنية الحديثة فى مصر, إصدار أقراص مدمجة (سى ديهات) تحمل معلومات وصورا وأفلاما. هذا بالإضافة إلى إعادة إصدار أهم الإصدارات التى صدرت فى مطلع القرن العشرين وكان لها تأثير فى المسيرة المدنية لمصر, وأى أبحاث لاحقة حول هذه الفترة مع كتابة مقدمات خاصة, إقامة متاحف دائمة خاصة بكل كيان, وتخصيص فترات زمنية إعلامية تقدم أفكارا فى القنوات المحلية والفضائية ومعلومات بصورة رشيقة تستخدم فيها التقنيات الحديثة التى تتلائم مع أبناء وبنات اليوم والغد. ليكن هذا العقد فرصة لتجديد المدنية المصرية فى ذهن ووجدان الأجيال الجديدة ليس بالمنطق الاحتفالى فقط وإنما بالعلم والبحث والدراسة والفن والإعلام والتعليم. إنها محاولة للدفع نحو ميلاد جديد للمدنية المصرية التى تأسست فى إطار النهوض الذى قام منذ قرن من الزمان. صفوة القول هل يمكن أن يكون هذا العقد “عقدا للمدنية المصرية؟”.