مصر بين الخبرة الوطنية و"استيراد" النماذج

شهدت المنطقة فى السنوات الأخيرة, جدلا ساخنا حول ما عرف بالإصلاح أو التغيير, بحسب ما يفضل البعض, ولعل أهم ما عكسه هذا الجدل هو لجوء البعض عند التعاملمع أى معضلة من معضلات الواقع السياسى إلى الاسترشاد بأحد النماذج من خارج الخبرة التاريخية المصرية. وبات فحوى هذا الجدل أن إتمام هذا الإصلاح – التغيير لابد أن يكون وفق نموذج “ما” مستورد, وزاد الجدل احتداما مع الانتفاض السياسى الذى شهدته مصر فى السنوات الأخيرة.


كانت الكلمة المفتاحية فى هذا الجدل هى “النموذج” فالإصلاح المنشود والتغيير المطلوب والعلاج لإشكاليات الواقع, ينبغى أن يكون بحسب “نموذج ما”: “أمريكى” لدى البعض الذى يتحدث عن مستقبل الحياة الحزبية فى مصر فيقول بالترويج للنموذج الأمريكى للديمقراطية, والنظام الحزبى القائم على حزبين رئيسيين و”أوروبى” لدى البعض الأخر وذلك عندما يكون الحديث عن العلاقة بين العلمانية والدين و “تركى” لدى البعض الثالث عند نقاش دمج الإسلام السياسى بحسب النموذج التركى, و”أوكرانى” متى كان الحديث عن الحركات الاحتجاجية, ووصل الأمر عند الحديث عن وضع غير المسلمين فى مصر أن بعض ماينتمون إلى الإسلام السياسى يسترشدون فى هذا الأمر بالنموذج العثمانى وتعداد مزايا النموذج الملى. واحتدام الجدل مع احتلال العراق بتكريس الولايات المتحدة الأمريكية “لثقافة النماذج” كون ما تحاول إنجازه قسرا هو النموذج الذى يجب الإقتداء به خاصة أن نجاخه مضمون فى تصورهم ومن ثم وجوب تعميمه. وهو ما أثر على بعض الساسة العراقيينمؤخرا فى أنه لامناص من الأخذ بالنموذج السويسرى باعتباره النموذج الأمثل. وهكذا بات يتردد فى الثقافة السياسية المصرية والعربية ما يمكن تسميته “بثقافة النماذج المستوردة”, من الآخرين. وأظن أن السؤال الجدير بالطرح هل يستقيم أن يتم إصلاح المجتمعات وتغيير الأمم ومن ثم التقدم بإتباع النماذج الاسترشادية أو باستيراد النماذج بغض النظر عن السياق والخبرة التاريخية الذاتية؟
بداية لابد من التمييز بين الإطلاع على تجارب الآخرين والدروس المستفادة منها, وبين “استيراد” / “استنساخ” هذه التجارب, حيث لايمكن أن ينطبق على تجارب الآحرين ما ينطبق على المنتجات المادية من سلع وآلات وأجهزة فتجارب الشعوب لاتورد من الآخرين ولاتستنسخ لتطوير الواقع, وإنما الخبرة التاريخية الخاصة بنا هى الجديرة بأن نراكم عليها ونستبعد منها.


لقد أجمع كثيرون من الذين اجتهدوا فى مجال علم التاريخ وتطور المجتمعات باختلاف توجهاتهم (توينبى, وجوردون شايلد, وكولينجوود, ماركس, ابن خلدون, مالك بن نبى, موريس كروزيه الذى أشرف على موسوعة تاريخ الحضارات العام, إمانويل والرشتاين, وغيرهم) أن التطور التاريخى لأى مجتمع هو محصلة عمليات الابتكار والاختيار الواعى بضرورة مواجهة مشاكل الواقع ومن ثم حدوث التقدم فى البناء الاجتماعى فى لحظة تاريخية معينة, فى ضوء معطيات الواقع. ويجيب ما سبق عن السؤال الذى طالما انشغل به رواد فكر النهضة بداية من الشيخ الجليل الطهطاوى عن أسباب تقدم الآخرين, فبالرغم من أن البشرعلى ظهر الكرة الأرضية لايختلفون فيما بينهم من حيث التكوين التشريحى, وإنهم متطابقون تماما,أو بلغة أخرى,

المصرى مثل الصينى مثل الهندى مثل آخرين, بيد أن الاختلاف يكمن فى الأخذ بالابتكار واتخاذ القرارات الحاسمة والتأثير فى البنية الاجتماعية القائمة وحدوث التقدم بالآخر, أى الانتقال بالمجتمع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أرقى, ويكون التقدم بهذا المعنى هو فى حقيقة القدرة على تكوين النموذج الوطنى الذاتى. وتصبح قدرة الشعوب فى إحداث التراكم على مجموعة الإنجازات التى يتم بلوغها هى العنصر الحاكم فى عدم النكوص والارتداد. بلغة أخرى, يتفق الكثير من فلاسفة التاريخ على أهمية أن كل جيل جديد – مجتمع بعينه – عليه تلقف نتاجات من سبقوه من ابتكارات مادية وفكرية ساهمت فى تقدم هذا المجتمع واستخدامها كمادة خام فى عملية ابتكار جديدة, هذا هو التراكم, وهذا هو ماتم فى كل حالات التقدم التى شاهدناها وقرأنا عنها, ومن ثم الحفاظ على نموذج التقدم الذى يتم تصنيعه محليا بجهد وطنى خالص. وتتسم مواجهة معضلات الواقع بأمرين:

الأول التجاهل للخبرة المصرية التاريخية وعدم التراكم على ماتم إنجازه فى لحظات النهوض الوطنى مهما كان حجمه وإدراك أنه دائما غير مستكمل, الثانى: اللجوء لاستيراد النماذج كما أسلفنا. فكثير من القضايا المثارة يتم الجدل حولها – من قبل البعض- بذهنية منفصلة تماما عن الخبرة التاريخية المصرية, وعن حصيلة العقل المصرى فيما يتعلق بهذه القضايا وكيف تناولها فكريا, وعن الواقع التاريخى وكيف كانت استجاباته لكثير من التحديات, ذهنية نجدها تستمد رؤاها للواقع من خلال استيراد النماذج, حيث يقوم بالمهمة ما يمكن تسميتهم “بالمثقفين المستوردين”, (بحسب عالم السياسة الفرنسى برتران بادى), كبديل عن ابتكار النموذج الوطنى للتقدم. فالنماذج المستوردة نجحت فى السياق الذى ولدت فيه, ولكن فى انتقالها تفقد فعاليتها وخصائصها الطبيعية متى حلت فى بيئة أخرى غير بيئتها الأصلية, تماما مثل الأعمال الفنية المقتبسة.


فالبناء الحزبى الأمريكى نتاج بيئته, وهو لايعبر كما هو الحال فى أوروبا عن تعبيرات اجتماعية وطبقية واضحة المعالم وإنما عن جماعات مصالح. والعلاقة بين الدينى والمدنى فى مصر تم إبداع اجتهادات متميزة حولها من قبل قامات فقهية معتبرة نحتاج إلى أن نعيد قراءتها وتعميمها ليس باعتبارها نصوصا مهمة فقط وإنما حلقة من حلقات التطور المصرى ساهمت فى الدفع بالحياة السياسية المصرية إلى الأمام فى لحظة تاريخية معينة حيث حملتها قوى اجتماعية طورت بها الواقع المصرى, خاصة أنها بلغت سقفا اجتهاديا عاليا نجد الجدل الدائر حاليا أدنى منه, وفى نفس الوقت سمحت بتبلور حالة مصرية مدنية فى غير خصومة مع الدين. بنفس المنطق نجد من يتحدث عن مزايا النموذج الملى العثمانى لغير المسلمين, المفارقة أن القارئ للفترة العثمانية يدرك أن مصر لم تعرف نظام الملة -بالمطلق – (ويمكن الإحالة هنا لمزيد من التفاصيل حول هذا الأمر إلى الأستاذ أبو سيف يوسف فى كتابه الأقباط والقومية العربية, والعالم عزيز سوريال عطية فى تاريخ المسيحية الشرقية, والدكتور محمد عفيفى فى الأقباط فى العصر العثمانى, وكاتب هذه السطور) بالاضافة إلى تقسيم المجتمع على أساس دينى. وحول دمج الإسلام السياسى فلا شك أن السياق التركى يختلف جذريا عن السياق المصرى.
خلاصة القول, لن يتحقق التقدم باستيراد النماذج أو أخذ ثمارها التى دفع أصحابها تكلفتها, وإنما يتحقق التقدم بجهد وطنى فى ابتكار النموذج الذاتى لهذا التقدم بالتراكم التاريخى للخبرة المصرية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern